شهادة الحسين استيلاد لمعاني الحب والعزة والكرامة والحياة
إن الحديث عن موسم عاشوراء الذي نعيش فيض بركاته ودروسه وعبره هذه الأيام، يقودنا إلى الحديث عن موسم الحزن والبكاء والحداد، موسم يأتينا كل سنة، ليجدد فينا الحزن، وتتجدد مصيبتنا بمأساة أهل بيت رسول الله، لا بل بمأساة الإسلام.
وهذا بدوره يقودنا الى الحديث عن ما يتناوله بعض المتابعين لهذا الموسم ممن يودون أن يفهموا ماذا تعني لنا عاشوراء، بكل هذا الحزن المتجدد فيها، وممن قرروا سلفا ان لا يفهموا جوهر ما يحصل ويكتفون بالنظر الى شكل الممارسات التي يقوم بها المحبّون والمواسون، وإلى التغيرات التي تحصل على ارض الواقع، حيث تعجّ الشوارع بالرايات والاعلام، سوداء وحمراء، وتكتسي المساجد بمثلها السوداء ويعم السواد جميع الناس من صغيرهم الى كبيرهم… أما الفرح فهو مؤجّل، والناس تبرمج مناسباتها لتتفرغ الى حزنها في عاشوراء.
إنّ أسئلة الآخرين، مشروعة خاصة في هذا العالم المفتوح على مصراعيه بالمعلومات، وبإمكانية التواصل المتاحة للجميع، حيث بات لكل فرد مساحة للتعبير عما يؤمن به ويدافع عنه، بالصوت والصورة والكلمة …
من هنا سنتناول موضوع علاقتنا بالحياة من خلال عاشوراء وثقافة الاستشهاد والموت.. فهل علاقتنا مع الحياة علاقة مأزومة بسبب عاشوراء، وهل عاشوراء تربينا على استعداء الحياة وكرهها، كما يحلو للبعض ان يظن او يفهم..
يمكننا أن نجري مقارنة سريعة بين حزن عاشوراء وغيرها من الأحزان، لنكتشف ان عاشوراء هي مدرسة للحياة الحقة بكل ما تطلبه هذه الحياة.
السواد والحزن بشكل عام قاتم كئيب، الا ان عاشوراء وبكل حزنها مشرقة مضيئة، تضيء لك الطريق، وتوضح معالمه.
الحزن في عاشوراء هو حزن يدعوك للخروج من ذاتك الى رحاب الحياة، والى الجهر بهذا الحزن والاعلان عنه.
إن كل الأحزان عقيمة تموت وتصغر مع الوقت، الا حزن عاشوراء فإنه يزداد ويكبر، ويستمر ويثمر ويتجّذر مع مرور الايام.
إنّ حزننا وحدادنا في عاشوراء هو الحياة بعينها، ولكن يبقى ان نعرّف الحياة وكذلك الموت، لان تعريف الحياة هو الذي يحدث الفرق، وهو الذي يشكل قناعتك.. الحياة هي حركة متجددة في الفكر، هي إحساس وتفاعل مع آلام الآخرين وأحزانهم وأحلامهم وطموحهم، هي إرادة وعزيمة وحضور، هي أثر تتركه في حياتك وحياة الآخرين.
إن نظرتنا للحياة والموت هي التي تشكل الأرضية التي ننطلق منها، ونحن ننطلق من القرآن وأحاديث الرسول(#) وأهل بيته(ع)، فهم قدوتنا، ونحن نؤمن بأن الحياة الدنيا مرحلة وتتبعها الحياة الأبدية، ولا يمكن فصل هذه عن تلك ولتلك الأولوية.
ومن هنا نجد كم سبحانه وتعالى يتحدث عن الشهداء أنهم أحياء رغم أنّ رفاتهم في التراب، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(آل عمران/169)
والى هذا أيضاً يشير الحديث: «يموت الرجل الا عن ثلاث: صدقة جارية ،أو ورقة علم ينتفع بها، أو ولد صالح يدعو له».
وعندما صنّف الإمام علي(ع) الفارق بين الموت والحياة قال: «الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين».
تعالوا ايها الأحبة ننظر إلى ما تحتاج إليه الحياة الحقيقية كي تستمر، ألا تحتاج إلى حرية، إلى كرامة، إلى عدل، إلى تضحية، إلى صبر، إلى ثبات… ألا تحتاج الحياة الى موقف، إلى صلابة… ألا تحتاج إلى إصلاح وتغيير ونهوض… إن حياة كل كائن حي تحتاج الى ذلك وإلا…
الإمام الحسين(ع) فعل كل ذلك ليس على مستواه كفرد، بل على مستوى أمّة بأكملها، ما فعله أعطى جرعة احياء للحياة، مفعولها استمر منذ ذلك الحين، وسيستمر على مدى الأجيال.
لقد قدّم الحسين(ع) وكلّ الذين كانوا معه في كربلاء فهماً غنياً للحياة وكرّسه درساً ومدرسة لنا وللانسانية جمعاء، حين لم يقبل هو واصحابه أن يتنازلوا عن مبادئهم وايمانهم، حين رفضوا أن يسلّموا للأمر الواقع السيء الذي أُريد أن يُفرض عليهم، وحين خيّروا بين التسليم له أو الموت.
إنّ ما واجهه الحسين وخرج لأجله، هو اجتثات العفن والاهتراء الذي كانت تعيشه الأمة في عصره، أمة ميتة لا حراك فيها ولا حيوية حين اسملت نفسها للذل والخنوع.
أمّة تُذل وتُهان وتمتهن كرامتها ويُساء الى عقيدتها وايمانها وتسكت أو تقف مع جلاديها…
لقد أحب الحسين(ع) هذه الحياة، وتجلى حبّه لها بأن سار في خط الاستشهاد، ليمنحها عدالة وايماناً وعزة… لو امكنه ذلك بغير الاستشهاد لفعل، لكن الاستشهاد كان هو الطريق الوحيد.
وهذه القناعة كانت متجذرة في أصحاب الحسين وأهل بيته، والبوصلة كانت واحدة: الموت فليكن، علي الأكبر في عاشوراء قال: «أولسنا على الحق، إذن لا نبالي أن نموت محقين»، وهي روح زينب تقول لابن زياد: «كد كيدك وناصب جهدك فانك والله لن تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا»… لأن الحسين(ع) والذين كانوا معه عرفوا الحياة بمعناها الحقيقي لم تعد حركة في الجسد، بل حركة في الروح والايمان والتعلق بالله والارتباط به، سمعوا وارتقوا وارتفعوا وبقوا في الحياة، يعطونها في كل مرحلة تجدداً، وعنفواناً وقوة واباء… عاشوراء ليست قاصرة في أن تمدنا بكل سبل الحياة، إنما نحن مقصّرون تجاهها عندما حبسناها في الشكل، ولم تنفذ الى عمق نفوسنا ونفوس الآخرين في كل العالم.. فلنسهّل الطريق على نشر تضحية الحسين ونشر ثورته، متوسلين كل أساليب لغة العصر لنقدمها بلغة مفهومة تصل الى كل الآذان والعقول، وستروي الكثير من العطاشى الى الحرية، الى الأمل واشراقة الحياة
…