دول الربيع العربي أولا : “الفوضى الخلاقة” تعويضاً عن “الشرق الأوسط الجديد”!
دخلت الأحداث المتسارعة في مصر مرحلة خطرة، مع تصاعد المواجهات الدموية بين أنصار الرئيس محمد مرسي، ومعارضيه الذين توحّدوا ضد قراراته.
وفي الوقت الذي كان الرئيس مرسي يؤكّد أنه “لن يوقف مسيرتنا أحد”، كانت مقرّات حزب “الحريّة والعدالة” الإسلامي، والذي يُعتبر الذراع السياسية لجماعة “الإخوان المسلمين”، تتعرّض لهجمات من قبل متظاهرين مناوئين للإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي، وعزّز من خلاله سلطاته.
وسقط عشرات الضحايا في صدامات مختلفة بين مؤيّدي مرسي ومعارضيه، في العديد من المناطق في مصر، وليس في ميدان التحرير وحده وحيث عادت التظاهرات الحاشدة لتطالب بإسقاط النظام، ويقال إنّ الخلاف الفعلي هو بين من يضغط لتطبيق حكم فردي بخلفيّة دينيّة متشدّدة في مصر، وكل القوى العلمانية والجهات التي تعارض هذا التوجّه.
والبعض يتحدّث عن أنّ “الإسلاميّين” في مصر، سرقوا ثورة “25 يناير”، لأنهم كانوا الأكثر تنظيماً عند حلول الإنتخابات، ولأنهم عرفوا كيف يتفاهمون مع قيادة الجيش المصري، الأمر الذي أمّن رضا الإدارة الأميركية عنهم. لكن “الإخوان المسلمين” يعانون من ضغوط “التيار السلفي” الداعم لهم، ومن معارضة “التيارات العلمانية”، ومن تفاقم المشاكل الإجتماعية والإقتصادية، ومن غياب الرؤية الواضحة على الصعيدين الفكري والثقافي، ومن صعوبات أمنية في سيناء ومن حرج في ملف غزّة، إلخ. الأمر الذي لا يبشّر بالخير بالنسبة إلى مستقبل حكمهم.
ما تشهده مصر من مشاكل وأزمات حادة ينسحب على باقي الدول العربية التي شهدت تغييرات جذريّة على صعيد طبيعة الحكم، وفق ما يُعرف بإسم “الربيع العربي”، وهي الظاهرة التي باتت تهدّد دولاً جديدة، مثل الأردن والمغرب. وفي هذا السياق، في تونس التي تمكّن شعبها في خلال “ثورة الياسمين”، من الإطاحة بحكم الرئيس زين العابدين بن علي الذي فرّ سريعاً خارج البلاد، مرّ أكثر من عام على حكم “الإسلاميّين”، مع التذكير أنّ “حركة النهضة الإسلامية” بقيادة راشد الغنوشي كانت فازت بما نسبته 41% من مقاعد “المجلس الوطني التأسيسي” في إنتخابات 23 تشرين الأوّل 2011، وشكّلوا حكومة مع حزبين علمانيّين. لكن وعود التغيير كانت كثيرة، في حين أنّ النتائج على الأرض كانت مخيّبة.
فالأمن الفردي غائب، والسياحة في تراجع شأنها شأن الوضع الإقتصادي العام، والبطالة في تزايد، والمشاكل السياسية آخذة بالتصاعد، في ظلّ غياب رؤية موحّدة حتى بين الأطياف الحاكمة، وبينها وبين التيارات المعارضة أيضاً. وأسفر كل ذلك عن تراجع نفوذ التيّار الإسلامي في تونس، والذي تشير الإستطلاعات أنه لن يحصد أكثر من 25 % من المقاعد في الإنتخابات المقبلة في العام 2013، كما هو مقرّر.
بالإنتقال إلى اليمن التي سقط فيها حكم الرئيس علي عبد الله صالح بعد ثلاثة عقود من الهيمنة الفرديّة، فإنّ المشاكل المتراكمة، من الأمور الحياتية والخِدمَاتية، مروراً بالأوضاع الإقتصادية، وصولاً إلى الوضع الأمني والسياسي العام، لم تسلك طريقها إلى الحل بعد. كما يواجه اليمن مشكلة إتنيّة كبيرة تتمثّل في تمدّد الحوثيّين إلى مدن جديدة نتيجة الدعم المالي الخارجي الذين يتلقّونه.
ويعاني اليمن من مشكلة تأصّل ظاهرة الجماعات المتشدّدة والتي يصفها الغرب بالإرهابية، ويعمل على ضربها وعلى تصفيتها بمختلف الوسائل. وعلى الرغم من أنّ الوقت لا يزال باكراً لظهور نتائج إيجابيّة، فإنّ الإتجاه الظاهر هو سلبي ويسير بشكل تراجعي، خاصة في الملف الأمني، نتيجة عدم سيطرة السلطة المركزية على أجهزة الأمن، وإنتشار الأسلحة بيد أفراد الشعب.
أما في ليبيا، فقد أعلنت مجموعة من السياسيّين ومن زعماء القبائل في مدينة بنغازي، الشرق الليبي الغنيّ بالنفط “إقليماً فدرالياً”، الأمر الذي زاد من المشاكل السياسية والأمنية في البلاد. وهدّد رئيس المجلس الوطني مصطفى عبد الجليل بإستخدام القوّة لمنع تقسيم ليبيا، علماً أنّ الكثير من الأحداث التي وقعت في ليبيا في الأشهر القليلة الماضية، أظهرت ضعف السلطة المركزية القويّة، في مقابل نفوذ كبير لزعماء القبائل وقادة المجموعات المسلّحة التي شاركت بالثورة العسكرية على حكم نظام العقيد معمّر القذافي.
وتشهد من وقت إلى آخر بعض المدن الليبية، ومنها مدينة الكفرة الصحراوية جنوب شرق ليبيا على سبيل المثال، مواجهات بين وحدات الجيش الليبي وكتائب من “الثوّار”. وأظهرت السلطات الليبيّة الرسميّة ضعفاً في السيطرة على سواحلها على البحر، الأمر الذي أثار حفيظة الدول الأوروبية، نتيجة تهريب الأسلحة ونقل المهاجرين غير الشرعيّين.
وفي سوريا، المأساة مستمرّة، ولا بوادر تهدئة أو حل قريب في الأفق، ما يرشّح فرصة توسّع المواجهات المسلّحة أكثر فأكثر، وتمدّدها إلى مناطق جديدة في البلاد، نتيجة تمسّك الرئيس بشّار الأسد بالسلطة مهما كلّف الأمر، وعدم توحّد أطياف المعارضة على رؤية جامعة تمهّد الطريق لتلقّي الدعم الغربي القادر على قلب موازين القوى.
وحتى في العراق، الذي كان شهد تغييراً في قيادته بالقوّة، وبفعل تدخّل عسكري غربي في حرب الخليج الثانية، فإنّ النزاعات المذهبيّة على أشدّها بين السنّة والشيعة، والنزاعات الإتنيّة متفاقمة أيضاً بين السنّة والأكراد الذين ينتشرون في الشمال والشمال الشرقي للبلاد. ولا تغيب التفجيرات الإرهابية عن يوميّات العراق، في ظل إنقسام سياسي كبير، وصراع كبير بين السلطة الحاكمة والمجموعات المذهبية والإتنية التي تسعى لإقامة حكم ذاتي كامل.
في الختام، لا بد من التذكير أنّه عندما هاجمت القوات الحليفة، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية العراق في العام 2003، وأطاحت بالرئيس صدام حسين، تحدّثت وزيرة الخارجية الأميركية في تلك الفترة، كونداليزا رايس، عن إقامة الشرق الأوسط الجديد. لكن الأحداث التي عاكست الإدارة الأميركية، دفعتها إلى إعتماد الخطة “باء” المعدّة سلفاً، والمتمثّلة بنشر “الفوضى الخلاقة” (Creative Chaos) في المنطقة، وصولاً إلى الهدف الأساس، أي الشرق الأوسط الجديد. فهل هذه الفوضى “غير الخلاقة” في الدول العربيّة هي فعلاً من تدبير أميركا؟! وهل سيأتي اليوم الذي سيتحسّر فيه الجميع، من معارضي واشنطن ومن مؤيّديها، على حكم الأنظمة التي كانت قبل “الثورات العربية”، والتي كانت تُتّهم بأنها تدور في الفلك الأميركي؟