بحث: معضلة الديموقراطية في مجتمعات أهلية (1)

معضلة الديموقراطية في مجتمعات أهلية (1)

اختلاف التعريف بين المدني والأهلي (1)

ــــــــــ

الاختلاف على تعريف «المجتمع المدني» وتحديد وظائفه يشير إليه أحمد بعلبكي حين يأتي على ذكر توصيفات الهيئات الدولية وتركيزها على منظومة مفاهيم تتحدث عن «انحسار دور الدولة المركزية» و«اللامركزية» و«مشاركة الناس في الخدمات والأعمال» في اعتبار أنها «تحقق الانتقال إلى المجتمع المدني». ويرى أنه اجتزاء وأسير التصنيف السلبي والملتبس للتعريف. وانتقد بعلبكي خطابات المنظمات الدولية التي تتحدث عن المجتمع المدني «كمفهوم خلاصي، تتقاطع في تبنّيه الرؤى الديموقراطية في التنمية والتقدم السياسي والاجتماعي»، ورأى ان استخدام المفهوم بشكل غير مسؤول نظرياً وخارج الظروف التاريخية وتراكم الخبرات والسنوات مسألة غير سليمة لأن مفهوم المجتمع المدني برز في أوروبا الصناعية خلال القرن الثامن عشر «ليعبّر عن تحرر الفكر الاجتماعي من استبداد السلطة الدينية المطلقة…». واختزال المفهوم وتغييب دلالاته وعزلها عن البنية الاجتماعية التعاقدية حيث «لا حضور مهيمن للسلطات الأهلية والدينية فيها» من الأخطاء الشائعة. فالمفهوم في سياقه العام لا يمكن فصله عن المسار التاريخي وتنامي الحركات الاجتماعية وتطور وعي الأفراد لمسألة الحقوق. المفهوم عندنا أصبح «بلا تاريخ». (مفهوم المجتمع المدني المروج في أدبيات التنمية ـ نصوص من منظمة الإسكوا نموذجاً، مجلة عمران، العدد الأول، صيف 2012. ص 100 ـ 106).

الملاحظات التي أشار إليها بعلبكي تؤكد وجود معضلة اجتماعية ـ تاريخية تتصل مباشرة بالبنية السوسيولوجية وتشكيلاتها الثقافية وانقساماتها الأهلية. فالمقارنة بين أوروبا في موقعها الراهن والبلدان العربية ليس دقيقاً، ولا يعكس تلك المقاربة المطلوبة لفهم طبيعة الاختلاف بين مجتمعات تأسست على علاقة الترابط بين السلطة والجماعة في العالم الأوروبي، وعلاقة التضاد بين النخبة والأهل (السلطة والجماعة) في العالم العربي.


الاختلاف بين البنيتين، المعطوف على منظومة علاقات سلطوية، الأولى تقوم على الترابط، والأخرى على التضاد، يكشفان مدى معضلة الديموقراطية وهشاشتها في مجتمع أهلي ينشطر إلى مراكز قوى عصبية. والديموقراطية حين تكون هشة تبدأ بالتفكك الآلي، ما يطرح فعلاً مشكلة التوفيق بين الحق القانوني (سلطة الغالبية) المكتسب من قوة التصويت في صناديق الاقتراع، وبين حق الأقليات السياسية بحماية هويتها (الطائفية، الدينية، واللونية) وحق الأحزاب العلمانية بالتميز والتمثيل وعدم التهميش والعزل عن فضاءات الدولة.

المشكلة بعينها تعيد إنتاج السؤال عن مدى إمكانية المعارضة العربية في شقيها الأهلي والمدني، أن تتعاون للخروج من المأزق المشترك. والسؤال يفتح الباب أمام أجوبة غير متجانسة في رؤيتها، لكنها تستطيع ان تساهم في وضع أسس هيكلية للقراءة في موضوعات خلافية تحتاج إلى دراية حتى يمكن التوصل إلى وضع قواعد نظرية للمشكلات. المجتمع المدني، كما ذكر، له سلسلة تعريفات لتمييزه عن المجتمع الأهلي (الفرق، الملل، النحل، القبائل، العشائر، والطوائف) جاء على ذكرها مثلاً باقر سلمان النجار في كتابه «الديموقراطية العصية في الخليج العربي» حين اعتبره بمثابة «نظام أخلاقي مواز لنظام الدولة»، أي «هو نمط من أنماط التنظيم الاجتماعي والسياسي والثقافي خارج عن هيمنة الدولة وسيطرتها، قليلاً وكثيراً». واستند النجار في تعريفه على خمسة تيارات فلسفية أوروبية، الأول يساوي بين المجتمع المدني والدولة (توماس هوبز)، والثاني يجعل منه مجالا مستقلا عن الدولة (جون لوك)، والثالث يجعل من المجتمع المدني مجالا للتنافس بين المصالح (فريدريك هيغل)، والرابع يجعل منه قاعدة مادية مؤسسة للدولة (كارل ماركس)، والتيار الخامس يجعل من المجتمع المدني ومنظماته مجالا وسطاً بين السوق والدولة (أنطونيو غرامشي). هناك اختلافات في التعريف أساسها ناتج عن الزاوية التي أخذ الفلاسفة في النظر منها لرؤية آليات العلاقة والتعامل بين الدولة والمجتمع. (الديموقراطية العصية في الخليج العربي، ص27 ـ 35، وص 19 ـ 23).

أيضا أقدم عزمي بشارة على دراسة المفهوم تفصيلياً في كتابه المعنون «المجتمع المدني ـ دراسة نقدية» مشيراً إلى تلك الاختلافات في تعريف وظائف المجتمع المدني بين هوبز (ملتحق بالدولة) ولوك (منفصل عنها) وهيغل (قبل الدولة أو بينها وبين العائلة) ومونتسكيو (وسيط يوازن الدولة ويحد من تأثيرها المباشر في الأفراد). ودو توكفيل يتحدث «عن روابط من المواطنين الواعين المهتمين بالشؤون العامة…». (المجتمع المدني، ص24، وص225).

يميز بشارة بين المدني والأهلي. الأول وحدة مركبة من عناصر متمايزة تجمع الفرد والمجتمع والدولة، والثاني يمثل وحدة طبيعية. وبهذا المعنى التعريفي ـ الاختلافي يرى أن شروط المجتمع المدني «تتجاوز الاقتصار على عملية المقابلة مع الدولة، لكنه، من الناحية الأخرى، لا يقوم خارج دائرة الاقصاء المتبادل مع الدولة». انه حالة تاريخية تراكمية تفاعلية تتطور في منظومة علاقات تقع في منطقة وسطى بين «المقابلة» و«الاقصاء»، فهو لا يقوم من دون دولة، والدولة تحتاج إليه، حتى لو دخل ساحة التنافس على وظائفها. وضمن هذه الحالة الدينامية تبدأ المواطنة بالتأسس «كحيز تقاطع بين الدولة والمجتمع»، معتبراً أن «المجتمع المدني، من دون سياسة، ومن خارج سياق المعركة من أجل الديموقراطية، هو عملية إجهاض». (المجتمع المدني، ص25 و28).

هناك مشكلة مع المفهوم، كذلك مع طبيعة المجتمع المدني وتكويناته، فهو مثلاً لا يمتلك تلك القوة التقريرية التي تسمح لمنظماته بإصدار القوانين، كذلك لا يستطيع ان يقدم ضمانات دستورية لحماية الأقليات السياسية من حكم الأغلبية. وأحيانا «يسهم في تفاقم المشكلة»، وأحيانا أخرى تكون الدولة متقدمة عليه كما حصل في الولايات المتحدة في موضوع إصدار قانون تحرير الأفارقة من نظام العبودية، إذ كانت الدولة «أكثر تحرراً من المجتمع المدني وأقل محافظة». (بشارة، المصدر نفسه، ص224).

المسألة تبدو أكثر تعقيداً من توهمات (تبسيطات) القوى الحزبية العربية (العلمانية، الليبرالية، القومية، والإسلامية) في اعتبار ان مادة الموضوع تتجاوز حقل التنافس على كسب أصوات المقترعين، لأن المشكلة في تكوينها تتصل مباشرة بانكسار المجتمع وانشطاره إلى تكتلات عضوية تتحكم فيها آليات يصعب تطويعها بسهولة ولا يمكن احتواء استقطاباتها بالشعارات الأيديولوجية. المشكلة بنيوية وتتجاوز حدود الاختلاف على تعريف المفهوم.

حتى الموسوعة الحرة (ويكيبديا) تنظر إلى «المجتمع المدني» بوصفه هيئات ومنظمات (لوبيات) للضغط. فالمصطلح مثلاً يشتمل على كل أنواع الأنشطة التطوعية التي تنظمها الجماعات حول المصالح والقيم والأهداف المشتركة (تقديم الخدمات، دعم التعليم المستقل، النقابات، الاتحادات، التأثير في السياسات العامة). كذلك هو اجتماع مواطنين خارج دائرة العمل الحكومي (خارج نطاق الدولة) لنشر معلومات او الترويج لسياسات أو ممارسة ضغوط مضادة او تعزيز توجهات. وأيضا هي منظمات غير حكومية وغير ربحية (استناداً إلى اعتبارات أخلاقية او ثقافية او سياسية او علمية او دينية خيرية) ويطلق عليها منظمات المجتمع المدني. وهي أعطيت هذا التعريف المحدود لتمييز المدني عن المجتمع السياسي (الدولة، أي انها «عائلة موسعة» غير تقليدية، تنمو بمقدار استعداد أفرادها على العطاء من دون مقابل (التوازن بين سلطة الدولة والجماعات الأهلية). (راجع موقع الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) عن مصطلح «المجتمع المدني» وتعريفه).

هذا الاختلاف على تعريف «المجتمع المدني» لا يلغي وظيفة الدور الايجابي الذي يمكن ان تلعبه المنظمات في كبح الانزلاق نحو التصادم الأهلي وما يتفرع عنه من تصدعات تمزق الوحدة الاجتماعية في سياقيها التاريخي او الميداني.

الوظيفة يمكن الرهان عليها، لكن من دون مبالغة في اعتبار ان المجتمع لا يزال يتطور باتجاه الدولة التي لا بد ان تتشكل في ضوء التحولات السياسية المعاصرة، وهي متغيرات جنينية تحتاج إلى فترة زمنية للاختبار. فالقوى الحزبية التي نالت غالبية الأصوات او نسبة مرتفعة من تعداد الناخبين (تونس ومصر مثلاً) ليس بالضرورة تكون جاهزة لقيادة التحول الطموح وتجاوز المطبات الأهلية المغرقة في قِدمها. فالمعضلة اجتماعية وليست ديموقراطية، وهي تتطلب قراءة تاريخية للتعرف الى خصائصها الديموغرافية وتشكيلاتها الثقافية وظروفها البيئية التي جاءت منها قبل ان تتورط النخبة في تأسيس برامج متوهمة لا يمكن البناء عليها في مرحلة زمنية تتعايش فيها الانقسامات الأهلية مع الهيئات المدنية.

هذه الأنماط (التشكيلات الاجتماعية) تتعايش أهلياً وتتجاوز مع السلطات في مختلف البلدان العربية مع وجود فروقات نسبية تتصل مباشرة بطبيعة الدولة السياسية والتكوين الاجتماعي للجماعات الأهلية (عشائر، طوائف، عائلات) والحيز الخاص الذي تتحرك في زواياه المستقلة منظمات ما يسمى بالمجتمع المدني. وهذه الأنماط هي أقرب إلى التكتلات التي تشتبك في مجالات خارج نفوذ الدولة (سلطتها ورقابتها) كما يحصل أحياناً في اليمن والسودان والعراق وليبيا. فالبلدان العربية في طورها الراهن من التطور الاجتماعي ـ التاريخي تمر في مرحلة فوضوية انتقالية تتفرع فيها ومنها مراكز قوى متنافرة، وتتوزع على مناطق وأحياء تجمع في وقت واحد الأهلي والمدني والسياسي إلى جانب قطاعات الدولة.

للبحث صلة

باحث من لبنان

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *