الفتنة السنية – الشيعية.. محاذيرها ونتائجها
كان محقاً السيد حسن نصرالله في التحذير في خطابه الأخير من انجرار البعض، سواء بقصد أو بغير قصد، إلى السير في مشروع فتنة سنية – شيعية، يرمي الغرب وبعض العرب إلى إشعالها، وهي إن حصلت وتمّت كما يُخطط لها، فستؤدي إلى تدمير لبنان والمنطقة على رؤوس أبنائها جميعهم، ولن تنأى من تداعياتها دولة عربية أو مسلمة في العالم.
بالفعل، أصاب السيد نصرالله في تنبيه الرأي العام الإسلامي إلى مخاطر الوقوع في فخ الفتنة تلك، فمن خلال ما نلاحظه من قراءة التقارير الغربية، ومن المؤتمرات الدولية التي نشارك بها، يمكن لنا استخلاص أهداف خطيرة جداً يرمي إليها مخططو تفجير الفتنة السنية – الشيعية، والتي يسير بها بعض المسلمين المدفوعين بدافع المذهبية البغيضة، من دون إدراك تداعياتها عليهم وعلى الأمة ككل.
ولعل أبرز ما يمكن إدراجه من أهداف ذلك المخطط، يمكن اختصارها بما يلي:
أولاً: إدخال المسلمين في أتون نار مذهبية دينية بين بعضهم البعض، وذلك لإلهائهم عن الأخطار الحقيقية المحدقة بهم، وأهمها الصراع العربي – “الإسرائيلي”، والمشروع الغربي الذي يرمي إلى السيطرة على المنطقة اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً.
ثانياً: تجفيف نبع الروحانية الإسلامية، وهنا يتحدث بعض الخبراء الغربيين عن ضرورة إدخال الإسلام إلى نفس “الأتون” المذهبي الديني الذي دخلت فيه أوروبا المسيحية في القرون الوسطى، والتي لم تخرج منها إلا وقد خسرت روحانيتها، وتخلى المجتمع عن تديّنه، ولفظ الكنيسة والدين، وبات من السهل اختراقها بكثير من البدع اليهودية التي دخلت إلى المسيحية وشوّهتها من الداخل، ودفعت بعض المسيحيين إلى الإيمان بالعهد القديم والأساطير التوراتية التي جاء المسيح لتصحيح النظرة إليها.
وبنفس السيناريو، لا بد من اختراق الدين الإسلامي بالبدع البعيدة عن جوهر الإسلام – وهو ما نشهده اليوم من انتشار الفتاوى الغريبة والمريبة في آن – والتي تجعله بحاجة إلى ثورة إصلاحية تُخرجه من البدع تلك، والتي لن تتم إلا بإضعافه وتجويفه.
ولكي يعيد التاريخ الأوروبي نفسه مع المسلمين هذه المرة، يجب أن يتمّ حكم بلاد المسلمين من قبل مؤسسات دينية متعصبة، تقوم بما قامت به الكنيسة على يد “بابوات” القرون الوسطى، فتقضي تلك الحركات الدينية المتعصبة، التي ستحكم بلاد الإسلام، على كل مظاهر الفكر والتقدم والانفتاح والتعايش، وتُغرق المسلمين بالتعصب والجهل، وتسلط عليهم فتاوى التكفير (كما تسلطت الكنيسة على الأوروبيين بتُهم الهرطقة).. والنتيجة، وكما في أوروبا، حرب دينية بين السنّة والشيعة تمتد مئة عام أو أكثر، يخرج بعدها المسلمون أضعف إيمانياً وسياسياً، وبعدها يخرجون إلى عصر الأنوار، فيسيطر الفكر المادي على الروحاني، وعندها يمكن لهم أن يخرجوا إلى العالم بفكر يدعو إلى فصل الدين على الدولة، ويدخلون في عصر نهضة حقيقية مشابهة للنهضة الأوروبية.
ثالثاً: تفتيت المنطقة إلى دويلات تقسَّم على أساس عرقي أو طائفي، ما يجعل من وجود “إسرائيل” كدولة يهودية أمراً طبيعياً في محيط من الدويلات المتناحرة طائفياً، وقد تكون “إسرائيل” حينها قبلة تلك الدويلات التي يمكن لها أن تسعى للتحالف معها – باعتبارها دولة قوية عسكرياً وتكنولوجياً ومدعومة غربياً – للقضاء على أعدائها من الدويلات الأخرى. والنتيجة تكون إنهاء القضية الفلسطينية، وإسقاط حق العودة نهائياً، وتوطين الفلسطينيين اللاجئين في أماكن وجودهم في تلك الدويلات الطائفية، التي لن ترفضهم، باعتبارهم جزءاً من انتمائها المذهبي، وهم “أخوة” في الدين قد يعززون وضع الدويلة الطائفية تلك.
رابعاً: القضاء على الوجود المسيحي في الشرق، ويبقى للمسيحيين وجود في بعض المناطق القليلة جداً التي تستطيع أن تقيم دويلتها القابلة للحياة، ومنها دولة الأقباط في سيناء، ودولة جنوب السودان..
أما في لبنان، فيتوهم بعض المسيحيين أنه سيكون لهم كونتونهم الخاص، يستأثرون بحكمه في ظل تحقق هذا السيناريو، ولذا يدفعون تلك الفتنة المذهبية دفعاً إلى الأمام، ويستميتون في إذكاء نارها، وهو ما لفت إليه السيد نصرالله أيضاً.
لكن، ما يبدو واضحاً من خلال قراءة كل المعطيات، أن القضاء على الوجود المسيحي في لبنان يبدو ضرورة لنجاح المخطط، باعتبار أن المناطق المسيحية تشكّل عازلاً بين المناطق السنيّة والشيعية، ولا بد من إزالة الدويلة – الحاجز إما بالتهجير، أو بتدفيعهم ثمن وجودهم بين جبهتين متقاتلتين، وجعلها غير قابلة للحياة بخنقها.
في المحصلة، إن المرحلة الصعبة التي نمرّ بها تحتم على السُّنة والشيعة والمسيحيين العقلاء في لبنان والعالم العربي، أن يعوا إلى أن وجودهم ومصيرهم ومستقبلهم مرهون بمدى وعيهم بما يحاك للمنطقة، وإن المصلحة الخاصة التي يحلم البعض بتحقيقها من فتنة سنية – شيعية، لن تُبقي شيئاً من الوطن كله لحكمه أو الاستئثار به.