هل إن الحل هو في تغيير الأنظمة العربية أم في إصلاح الشعوب العربية ؟
سؤال سبق وأن أثرته وأجبت عليه في مقال سابق كتبته قبل عدة سنوات بعنوان (أنها مشكلة شعوب لا رؤساء) وحينها تعجب الكثيرون من رؤيتي هذه، والتي كان لها أسبابها ومعطياتها الموضوعية، رؤية أكدها ما حصل في العراق بعد2003 وأكدتها مؤخراً أحداث ما سمي بالربيع العربي والتداعيات التي تلته، وما تمَخّض عن هذا الربيع الأسود من حكومات بائسة ووجوه كالحة بدأت تتسلق السلطة كالجراد وفوضى عارمة بدأت تكتسح العالم العربي، أثبتت وبما لا يدع مجالاً للشك بأن المشكلة هي ليست فقط في النظم الحاكمة، التي ما إن زالت حتى أصبح الوضع أسوء مما كان عليه في أيامها! فأين تكمُن المشكلة إذاً؟ والى أين نمضي؟
طبعاً الجواب ليسَ سَهلاً، خُصوصاً في ظل مانعيشه اليوم من فوضى مفتعلة وغليان شعبي هستيري نتيجة عُقود الظلم والفقر الذي أصاب هذه الشعوب، والذي تستغله وتغذيه قوى داخلية وأطراف إقليمية وقنوات فضائية مَدفوعة الثمَن تحول الباطل الى حَق والحَبّة الى قُبّة.
فالنِسبة الأكبر لمُتظاهري ثورات البؤس العربي هم عوام مُنوّمون مُغناطيسياً مِن قبل سَماسِرة الإسلام السياسي، ويُمثلون أدواتهم للوصول للسُلطة كما كانوا قبل نصف قرن أدوات العَسكر لنفس الغاية.
وإذا كان مَن يندفعون اليوم بدَعم ما يُسَمّى بالشارع الثائر قد فقدوا ذاكرتهم أو يَدّعون ذلك، فيَسُرّنا أن نُعيد لهُم شريط الذكريات الذي يُسَجّل أن الشارع الثائر هو مَن جاء بالجمهوريات الوراثية قبل نصف قرن وألّه قادتها وحُكامها، وكان حتى الأمس يُصَفق ويُغني لهم. فالشارع الثائر هو مَن هَلّلَ لوصول أمثال عبد الناصر وقاسم وصدام للسلطة وألّهَهُم ووصَفهم بالزُعَماء! وكما لعبَت صوت العرب قبل نصف قرن دوراً مَشبوهاً بتهييج المَشاعر البدائية لعوام الشارع العربي، تلعب الجزيرة اليوم نفس الدور بتهييج مَشاعِر هذا الشارع ودفعه للفوضى.
لذا مَن يَضمن لنا بأن شارع اليوم ليسَ شارع الأمس بل وأسوء، وأنه لن يُعيد إفراز نفس النماذج بل وأسوء ويوصلهم للألوهية كما فعل مَع أسلافهم؟ خصوصاً أن الوَعي الجَمعي للشعوب عادَ القهقري، وهو اليوم مُتخلف ومُتأخر عَمّا كان عَليه قبل بالأمس.
فشارع خَمسينات وستينات القرن الماضي كان أكثر وَعياً وتمَدّناً مِنه الآن، ورَغم ذلك وقع فريسة للأحزاب الثورية الشُمولية والعَسكر وأوصلهم للسُلطة وسَلّمها لهُم على طبَق مِن ذهَب.أما شارع اليوم فطامّته أكبر لأنه يَسير خلف إسلامويين الذين غَسَلوا عَقله وسَخّروا وعيَه الساذج لخِدمَتهم وتحقيق غاياتهم، لذا نراه قد دَعَم وصولهُم للسُلطة وأعطاهم صَوته بأول إنتخابات جرَت بَعد التغيير،ليُفرز بَرلمانات يَملأها أصحاب اللحى والمَحابس بدءً مِن عِراق الحضارة شرقاً حتى تونس الخضراء غَرباً مُروراً بالمَحروسة مصروالدور على سوريا.
نوعان مِن الناس تظاهروا في شَوارع المُدُن العربية ضد النُظُم الحاكمة، الأول دافعه ديني وهُم غالبية، والثاني دافعه وطني هدفه مُحاربة الدكتاتورية والفساد وهُم أقلية، فالهَدَف الأساسي لثورات تدعَمُها إمارة أخوانية لايمكن أن يكون ُمحاربة الدكتاتورية والطغيان وقمع الحُريات،ثم ما المَقصود بالحُريات؟ ومِن أي وجهة يُنظَر لها؟.
لقد باتت هذه المفاهيم نِسبية في عَصر ما تسَمّى بالنَهضة الإسلامية، لأن فرض الشريعة والحِجاب والنقاب وفصل الجنسين في الدوائر والجامعات هو قمع للحُريات بنظرنا ونظر شَريحة مُعَيّنة، في حين تراه شَرائح أخرى تطبيقاً للشَريعة واجباً على ولي الأمر، كشَرائح الشعب الفلسطيني التي تؤيد حَماس وشرائح الشعب اللبناني التي تؤيد حزب الله، وشرائح الشعب المصري التي تؤيد الأخوان، وشرائح الشعب العراقي التي تؤيد حزب الدعوة.
بمَعنى آخر هناك مَن يَثور على الحاكم لأنه من وجهة نظره علماني لايُطبق الشَريعة ويُحارب النقاب وتطبيق الإسلام، وهو ما يَنطبق على نِسبة ليسَت قليلة مِن شرائح شعوب تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن، التي لم تثر على حُكّامها لأنهم دكتاتوريون، بل لأنهم بنَظرها يُحاربون الإسلام ويَمنعون تطبيق الشَريعة،وما الشِعارات الدينية والطائفية التي نسمعها اليوم على لسان أصحاب اللحى مِن لملوم المُسلحين في شوارع بَعض المُدُن السورية التي باتت رَمزاً للتحرّر في بروباغندا الإعلام العربي والغربي المَأجور رغمَ طَبيعتها المُحافظة المعروفة، والتي تصِف النظام السوري بالكافِر إلا دَليل على ذلك.
إن أبناء جنوب لبنان مثلاً لايَرون ضَيراً في أن يحكمهم حزب راديكالي ذو لون طائفي واحد ولايَعتبروه دكتاتورياً، بالعَكس هُم يُرحِّبون بذلك ويَستنكرون مايَرونه في باقي أجزاء لبنان مِن إنفتاح وحُرية، كان لبنان رَمزاً لها حتى الحَرب الأهلية التي أفرزت قوى وأحزاب هَجينة بتوَجّهات دينية طائفية، إستطاعت بدَعم مِن قوى خارجية أن تداعِب مَشاعِر البُسَطاء، وأن تمَزق نَسيج مُجتمعِهم بالصورة المُرعِبة الحالية.
كذلك الحال مَع سُكان غزة، الذين لايَرون ضَيراً بفَرض حَماس لقوانين القرون الوسطى، ويدعَمون توجهاتها وينتخبونها بأغلبية مُقابل مُنظمة التحرير التي يَرونها تياراً مَدَنياً بعيداً عَن الإسلام. وفي العراق هنالك شريحة واسعة تؤيد الإئتلاف ودولة القانون والتوافق لأن توجهها ديني، وهؤلاء لم يَرغبوا بإسقاط نظام صدام لكونه دكتاتورياً، بل لأنه كان بنَظرهم علمانياً ضد الإسلام الذي تمثله بالنسبة لهم قوى الإئتلاف ودولة القانون والتوافق.
لذلك فإن أخطر ما يُهدِّد مَصير المجتمعات العربية حالياً ويُنذِر بسقوطها فريسة لقوى الإسلام السياسي، هو الإنقسام الذي يعيشه الشارع العربي منذ عقود بسَبَب غياب شعور المُواطنة لدى أبنائه بعد فشل حكوماتهم خلال نصف قرن ببناء دولة مُواطنة تحترم حقوق مُواطنيها، ما فسَح المجال للقوى الدينية والقومية لإحياء الولائات المَذهبية والإثنية وإستغلالها للتأثير على عُقول شرائح واسِعة مِن هذه الشعوب، التي رأت في شعار الإنتماء للطائفة والقومية تعويضاً لها عَن غياب الإحساس بالأمان الذي إفتقدته في أوطانها و وجَدت بَعض مِنه بكنف الطائفة والقبيلة، خصوصاً إننا نتحدث عَن شرائح ذات وَعي جَمعي مَتدنّي ومَعدوم أحياناً.
أما فوبيا التعاطف مع الثورات العربية التي إجتاحت الشارع العربي عموماً، والتي كانت معقولة مِن قبل البَعض، ومُبالغ فيها من قبل البَعض الآخر، فهي لم تكن بدافع الأيمان بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الأنسان، بل كانت لها أبعاد أخرى مُختلفة أحَدها البُعد الطائفي، الذي دَفع بالكثيرين مِمّن يُرَوّجون للمالكي القائل”هوة يكدراحد ياخذهة حتى نطيهة بعد” لأن يشرعوا سيوفهم ضد بن علي ومبارك، فهُم أسود على باقي الرؤساء وتحت أسيادهم مِن أمراء الطوائف كالخِراف،بعضهم يؤيد الثورة ضد الحاكم لأنه مِن طائفة أخرى فيما لايؤيدها على حاكم آخر لأنه مِن نفس طائفته، رغم أن الدكتاتورية نفسها والقمع والفساد نفسه بجميع هذه الدول، ونفس الأمر ينطبق على جنوب لبنان وسوريا وغزة واليمن.
البُعد الآخر لهذه الفوبيا الذي لم ينتبه له أحد، ويتعلق بالثورة المصرية بالذات هو أن هذا التعاطف لم يأتي كون مبارك دكتاتور،خصوصاً أن دكتاتوريته تعتبر ديمقراطية 5 نجوم مُقارنة بصدام الذي لايزال بنظر البَعض بطلاً، أو مقارنة بدكتاتورية أمراء الطوائف الذين يَحكمون العراق اليوم، بل كان بسَبَب أن الأضداد إتفقت على كُره مبارك، فالواقعية التي كان الرجل يَسير وفقها لما كان يَراه خير بلده والمنطقة جَعَلته يَقف مَع صدام في حربه مَع إيران، ثم يقف ضده في غزوه للكويت وحربه لأمريكا، ثم يسعى لإسقاطه قبل2003، ليعود بعدها ويقف بوجه النظام الهَجين القائم بالعراق فاضحاً توجهاته وتبعية أحزابه لإيران. لذا فسقوط مبارك كان حُلماً طالما راوَد مُخيّلة أغلب العرب والعراقيين الذين إنقسموا بين عاشق ولهان بصدام، وتابع مُنقاد لإيران وأذرعها بالعراق وفلسطين ولبنان واليمن والخليج وحتى مصر، وبكلا الحالتين كان للمُشار لهم ثأر مَع مبارك الذي أسقط صدام مِن جهة ووقف بوجه مُخططات دولة الولي الفقيه مِن جهة أخرى، ورغم إتفاق النقيضين على كُرهِه ودَعم الثورة ضده، سنراههم في قادم الأيام مُنقسمين بمَواقفهم مِن ثورات أخرى، فمَن سَنراه ثورياً مع إحداها سَيَخذل أخرى ويقف مع طغاتها وجلاديها.
لذلك الحل المنطقي لإصلاح الوضع في الدول العربية،هذا إن بقي هنالك أمل في إصلاحها،هو في إصلاح الشعوب نفسها والنهوض بوَعيها المُتدَني لتواكب تطورات العَصر وتفرز أنظِمة حُكم جديدة وليس في تغيير الأنظمة، لأن تغييرها مع إبقاء الشعوب على حالِها سيُعيد إنتاج نفس النظُم الشُمولية الدكتاتورية وربما أسوء
. فالفساد ليس مَوجوداً في النظُم الحاكِمة فقط، بل هو مَوجود ومُترَسِّخ أيضاً لدى الكثير مِن الشرائح في المُجتمعات العربية، والدكتاتورية ليسَت موجودة لدى النظُم الحاكِمة فقط، بل هي مَوجودة ومُتأصِّلة أيضاً لدى شرائح واسعة مِن هذه المُجتمعات التي تربّت على شريعة الغاب وتعلمَت مِن سَدَنة الوَهم بأن الخلاص الفردي والتلحّف برداء الطائِفة هو مُنتهى الأمل والطموح، بعيداً عن مَصلحة الوطن الذي يُمثل الكل والمَجموع. لقد زال النظام الدكتاتوري الفاسِد الذي كان قائماً في العراق مثلاًَ،وجاء للحُكم مَن كانوا يَدّعون مُعارضتهم لدكتاتوريته وفساده، فماذا حدث؟ هاهُم أشد دكتاتورية وفساداً مِنه، وها هو الفساد بإزدياد،والدكتاتورية في صعود، والجَهل والتخلف والظلامية والأنانية والوصولية تعمي القلوب والأبصار، وكأنك يا بو زيد ماغزيت.
لأن المشكلة ليسَت فقط في صدام ونظامه، بل في الشعب الذي تقبل صدام وحزبه في السُلطة وطبل وهلل له لثلاثين عاماً بل ولازالت بعض شرائحه المُغيّبة الوَعي تترَحّم عليه، فعندما تخلص هذا الشعب من صدام وجائته الفرصة للتغير ولأختيار من هو أهل للسلطة لم يستغلها وأعاد إفراز نموذج ظاهره مختلف عن صدام لكن باطنه شبيه له بل وأسوء منه بكثير، لأنه مجتمع لايريد أن يحكم من قبل أكابر القوم وأشرافهم بل يَميل لأن يَحكمه صبيان الشوارع الخلفية و عساكرالأقبية المظلمة.
هنا يبرز دور المثقفين الذين يُمثلون حتى الآن عامِلاً سَلبياً أكثر مِنه إيجابياً في إصلاح هذه الشعوب، فهم يَميلون مع عَزفها النشاز بدلاً مِن مواجَهتِها بحقيقة نشازه، وبدلاً مِن مُمارسة دَورهم المُفترض بتوعية الناس وإعادتهم لجادة العَقل والصَواب، لا بَل يَزيدون نارَهم حَطباً و يَركبون مَوجات الإندفاع والتهَوّر غير المَدروس وغير مَحسوب النتائج التي تقدم عليها هذه الشرئح، كما إن بَعضهم يُصاب بحالة هيستيريا وفقدان وزن واضِح كلما أقدَمَت العوام على الثورة والتظاهر ويُشاركها فيها ويدعوا الناس للإنصياع للشرعية الثورية، كحال أغلب المُثقفين والفنانين والمُحامين والأدباء والكتاب والإعلاميين المَصريين والعرب الذي ركبوا موجة تظاهرات مَصر في أيامها الأخيرة بعد أن تأكدوا مِن إنتهاء اللعبة وإحتراق ورقة الرئيس السابق حسني مبارك. عن حال الزمان: شر الأزمنة أن يتبجح الجاهل ويسكت العاقل، ولكن القبة الجوفاء لا ترجع غير الصدى
مصطفى القرة داغي
تعليق من القوة الثالثة لو سمح الكاتب الكريم
أن المراهنة على المثقفين هي مراهنة خاسرة جملة وتفصيلا لأن الثقافة دمرت أولا وقبل غزو العراق ومابعدها، ومن ثم حوصر المثقف الذي يفكر بأمته وشعبه. الثقافة قتلت لأنها سلاح أستنهاضي وأميركا كانت تعرف ذلك وبالتالي طوقت المثقفين الحقيقيين وفسحت المجال لأنصاف ارباع المثقفين والقادمين من مفاقسها. فصارت هناك ثقافة التدليس التي تجادل بأن العمالة مجرد وجهة نظر، وأن العميل يمارس علاقات عامة ليس فيها ضررا بل فيها منفعة للأمة .. لهذا فالثقافة الموجودة هي مستعمرة تماما مثلما أستعمرت الكراسي والبلدان التي تحدثت عنها في مقالك القيم .. وشكرا