تركيا واللعبة الخطرة
تركيا دولة كبيرة المساحة جغرافياً، وكثيفة السكان تصل إلى 73 مليون نسمة . وموقعها الجغرافي استراتيجي للغاية . هي خط تماس بين أوروبا وآسيا، وهي خط تماس حضاري بين الشرق والغرب وبين المسيحية والإسلام وبين العالم السلافي والإسلامي . واقتصادها الآن قوي ولها امتدادات عرقية في القوقاز وآسيا الوسطى وجيشها من الجيوش الأقوى في العالم .
عندما تتحرك تركيا يتحرك هذا الحوض الممتد من البلقان إلى حدود الصين مروراً بكل التخوم الجنوبية لروسيا والشرق الأوسط .
“نامت” تركيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ونام معها الدور .
في عهد أتاتورك أي حتى العام 1938 انكفأت تركيا على ترتيب بيتها الداخلي بعد هزيمتها الكبرى المدوية في الحرب العالمية الأولى التي أنهت أكبر وآخر إمبراطورية استمرت 600 عام، وامتدت على ثلاث قارات .
وفي الحرب الباردة تكبّل الدور لأن تركيا ارتضت أن تكون جزءاً من المعسكر الغربي وحلف شمال الأطلسي الذي كان برأس واحد هو الولايات المتحدة . لعبت تركيا دور التابع في السياسات الاقليمية والدولية، فاستمر الدور محدوداً ومقيداً .
ورغم انتهاء الحرب الباردة وانكسار الثنائية القطبية، فإن تركيا لم تعثر على دور خاص بها إلا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة العام 2002 والذي يمر عليه هذه الأيام عشر سنوات .
قرر حزب العدالة والتنمية أن تركيا لا يمكن أن تنحبس في الأناضول، وأن أفضل طريقة للدفاع عن الأناضول هي إقامة خطوط دفاعية خارج البلاد .
أي أن تبدأ هذه الخطوط من مصر مثلاً وتونس ودول الخليج العربية والبوسنة وكوسوفو وأذربيجان والشيشان ومقاطعة الأويغور في الصين . وهو ما عرف بسياسة العمق الاستراتيجي، أي أن تلعب في ملاعب الآخرين وأن أفضل وسيلة للدفاع، وفقاً للعبة كرة القدم، هي الهجوم .
قرار عودة اللاعب العثماني السابق إلى الساحة الدولية غير منفصل، في جانب منه، عن السياسات الغربية والرهانات الأمريكية . لكنها، لا شك، مقامرة لا يمكن التكهن بنتائجها، لأن الحراك التركي له مترتبات وتداعيات وانعكاسات، وكان الموقف من الأزمة السورية “بيت القصيد” في هذه المخاطر ومدى أثر الدور التركي عندما يتحرك .
لقد تكاتفت القوى الكبرى في الحرب العالمية الأولى لتصفية الخطر العثماني الذي قضّ مضاجع أوروبا على مدى قرون . ونجحوا في ذلك . واليوم عندما تأخذ تركيا موقفاً هو الأكثر راديكالية من مسألة النظام في سوريا فلأنها قررت أن يتحرك الذئب الأغبر التركي في كل المساحة الأوراسية من الأدرياتيك إلى سور الصين، ومن المتوسط إلى المحيط الهندي . وهو ما لا يمكن للقوى الكبرى الغربية والشرقية أن تتحمله إلى درجة إحياء النزعة العثمانية بما تحمله من مخاطر على أوروبا وروسيا وصولاً إلى الصين مروراً بإيران . ولا أعتقد أيضاً أن العرب يمكن أن يتحملوا مثل هذا “الترف” المغامر الذي يعيد خلط الأوراق .
لذلك لم يكن مستغرباً أمران: الأول، هو دفاع روسيا والصين حتى النهاية عن النظام في سوريا لتبقى سوريا خارج التأثير التركي (والغربي) . ولا يترك المسؤولون الروس والصينيون سانحة إلا ويجددون التأكيد أن سوريا هي جزء من الأمن القومي للبلدين . ولم يتردد بوتين في التهديد بحرب نووية عالمية إذا اضطر إلى ذلك .
الأمر الثاني، هو التمهل الأمريكي في الاندفاع لإسقاط النظام السوري ليس فقط لأنها تغامر بحرب عالمية نظراً لأن الروس لن يبقوا، كما أسلفنا، ساكتين، بل أيضاً لأن تركيا جديدة ومتوثبة أيضاً لا يمكن القبول بأن تستعيد دوراً يسبب حساسية للأوروبيين والغرب قبل الروس، خصوصاً في ظل خطاب قومي وديني متشدد ومعاد حتى للأوروبيين من جانب الزعيم التركي رجب طيب أردوغان الذي لم يقدم نماذج افتخار من الماضي التركي إلا تلك المعارك التي خاضها السلاجقة ضد البيزنطيين، ومعركة محمد الفاتح لفتح القسطنطينية ووصف الحضارة البيزنطية بأنها حضارة سوداء .
من هنا نفهم جانباً من رفض الغرب النزول عند الإلحاح التركي للقيام بعمل عسكري ضد الرئيس السوري والتخلص منه . وإذا كان من عبرة في ذلك لتركيا فهي أن اللّعِبَ بين أقدام الفيلة لعبة خطرة وقد تكون مميتة .