العلاقات التركية ـ الروسية: شراكة اقتصادية أم عداوة أبدية؟
العلاقات الروسية ـ التركية شديدة التعقيد. إرث من سنوات الحرب الباردة لم يبدد بعد. شكوك متبادلة واستحضار للماضي في ما بينهما وأزماته. يظهر أن العلاقات بين البلدين محاصرة بين حدي الشعور «بالعداء» وإقامة شراكة اقتصادية عملية وواقعية. هنا الجزء الثاني من بحث الخبيرة التركية هيلين ساري ايرتم.
تنظـر تركـيا مـنذ فـترة طويلـة لروسـيا باعتبارها واحدة من المؤيدين غير المباشرين لإرهاب «حزب العمال الكردستاني» في تركيا. ومثل العديد من البلدان الأخرى المجاورة كسـوريا واليونان، اتهمت روسـيا أيـضاً بالسماح لمقاتلي «حزب العمال الكردستاني» في الاستقرار على أراضيها. واضطر زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان، إلى مغادرة سورية في العام 1998، متوجهاً إلى روسيا ومن ثم إلى إيطاليا، قبل أن يتم القبض عليه في كينيا.
وبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة الأميركية في عام 2001، كان لتركيا فرصة أفضل للتعبير عن نفسها في الساحة الدولية في ما يتعلق بحربها ضد «حزب العمال الكردستاني». وأعطت تركيا، التي بذلت جهداً هاماً لتعزيز الدعم الدولي لحربها ضد الإرهاب، استجابة سريعة وإيجابيـة لمطالب الولايات المتحدة بشـأن الـقضاء على «حركة طالبان». وتهدف إلى وضع نهج مشترك ضد الإرهاب، واتخذت دوراً نشطاً في قوة المساعدة الأمنية الدولية (القيادة المركزية الأميركية) في أفغانستان كعضو في منظمة حلف شمال الأطلسي. ثم دعا رئيس الوزراء التركي بولنت أجاويد هذا الدور بأنه «دين أدبـي»، مذكـراً بأن تركيا لم تتلق دائمًا ما يلـزم من دعم من واشنطـن في الوقـت الذي تقاتل فيه ضد إرهاب «حزب العمال الكردستاني». وشدد على أنه لم يحصل على الدعم نفسه من دول أخرى.
وحاولت أنقرة إقناع روسيـا من أجل خفض الدعم المحتمل لهذا الحزب. وفي 28 سبتمبر/أيلول 2001، أكد الرئيسان التركي والروسي نهجـهما في ما يتعلق بمكافحـة الإرهـاب، وشددا على أهمية التضامن. ومع ذلك، تواصل انعدام الثقة بين البلدين، واعتقدت موسكو منذ وقت طويل أن تركيا، التي يحكمها «حزب العدالة والتنمية» المحافظ مع التوجهات الإسلامية، ستفضل في الواقع دعم مسلمي الشيشان ضد روسيا. كما تم اتهام تركيا في كثير من الأحيان بتقديم الأسلحة والدعم اللوجستي للشيشان. تهدف الزيارات المتبادلة المستمرة واتفاقات ثنائية مختلفة في الألفية الجديدة لإزالة هذا التصور، وزيادة مستوى التعاون ضد الإرهاب. وعلى الرغم من أن هناك بعض التـقدم لخفض هذه السلبية، واصلت وسائل الإعلام التركية التعبير عن أن روسيا لا تزال تمد مقاتلي «حزب العمال الكردستاني» بالسلاح من أجل زعزعة استقرار تركيا.
التوترات التركية ـ السورية الأخيرة
والتأثير الروسي
هدف تغيير ديناميات السياسة الخارجية التركية في عهد «حزب العدالة والتنمية»، لا سيما من جانب وزير الخارجية الحالي أحمد داود أوغلو، إلى وضع تركيا في مكان أفضل على خريطة السياسة العالمية. ومثل تحسين العلاقات مع العالم الإسلامي، الذي طالما تم تجاهله من قبل النهج العلماني التقليدي للجمهورية التركية، فتحا لمجال جديد للنفوذ بالنسبة لتركيا. وأثير سؤال حول ما إذا كانت تركيا يمكن أن تكون «نموذجاً» للعالم الإسلامي، والذي تفاقم مع الانتفاضات العربية، واحتل جدول الأعمال للنشاطات السياسية في العديد من العواصم. ومع مستوى الدعم الشعبي الذي حققه في الرأي العام العربي، فقد أصبح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان اسماً مثيراً للإعجاب. ساهم دعم القضية الفلسطينية وتبريد علاقاتها مع إسرائيل، في زيادة شعبية حكومة «حزب العدالة والتنمية».
ومع ذلك، بدءاً من القضية الليبية، ومؤخراً مع القضية السورية، أصبح الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لتركيا من حيث مواصلة هذه الشعبية. فتركيا الآن في خطر فقدان هذا الدعم في منطقة الشرق الأوسط بسبب علاقاتها المترنحة مع سوريا، وأيضاً بسبب دعمها الذي أتى في اللحظة الأخيرة لإسقاط نظام القذافي في ليبيا، على الرغم من أنه لم يجلب الكثير من المتاعب حيث تم القضاء على الزعيم الليبي بسرعة كبيرة للغايـة من قبل التحـالف الغـربي. ومع ذلك، فإن مقاومة النظام السوري في سوريا وعدم وجـود إصرار غربي على القضاء عليه قد وضعا تركيا في وضع معقد، حيث يجب عليها أن تقرر ما إذا كانت سوف تضغط لتغيير النظام في سـوريا أم تتراجع. سيمثل الضغط صعوبة أكثر وخطرا على مصداقية تركيا في أوساط الرأي العام العربي، لجهة إظهارها بأنها داعية حرب
. وهناك بالفعل الكثير من التعليقات تدور حولها الشكوك بوجود جدول أعمال لعثمانية جديدة. ومع ذلك، فإن حوادث في الآونة الاخـيرة مثل إسقاط سوريا طائرة عسكرية تركية في منطقة البحـر الأبيض المتوسـط تفرض على تركيا مواصلة هذه اللعبة الخـطرة. وحتى لا تبدو ضعـيفة، فإنها تفضل زيادة لهجتها الترهيبية ضد سـوريا على الرغم من أن الغالبية العظـمى من الرأي العـام الـتركي تعلن صراحة انها لا تحـبذ أي حـرب ضد دمشق. وفي هذا الجو المتوتر، مرة أخرى يجري التدقيق في العلاقات التركية – الروسية، على الرغم من عدم انخراط روسيا مباشرة في هذه القضية، لكن الدور الذي تلعبه بشكل غير مباشر في الأزمة السورية وضعها على جدول الأعمال السياسي العالمي، بوصفها عضواً في مجلس الأمن يملك حق النقض (الفيتو).
ومثلها مثل الصين تمنع روسيا صدور قرار عن مجلس الأمن، ما يطيل بقاء النظام السوري. وعلى غرار فترة الحرب الباردة، لا تزال موسكو تدعم نظام الأسد وتزوده بأنواع مختلفة من نظم الأسلحة، ولذلك ينظر الرأي العام التركي إلى روسيا باعتبارها واحدة من الجهات المسؤولة عن إسقاط الطائرة العسكرية التركية من قبل سوريا في شهر يونيو/حزيران عام 2012، إذ ربما أسقطت الطائرة التركية بصاروخ روسي. ومن المعروف مسبقاً أن ثلاث سفن حربية روسية ترسو بالقرب من ميناء اللاذقية في سوريا، وواحدة من هذه البوارج لديها أنظمة الدفاع الجوي والرادارات اللازمة لحماية سوريا.
وعلاوة على ذلك، وكما هو معروف انه منذ أن وضعت الولايات المتحدة نظاما مضادا للصواريخ في بولندا بعد أزمة أوسيتيا الجنوبية في عام 2008، بدأت روسيا في إعادة تأسيس قاعدة للبحرية السوفيتية السابقة في ميناء طرطوس السوري. وعلى الرغم من أن موسكو أعلنت أن الحادثة التي ارتكبتها سوريا لم تكن عملا مخططا وأنقرة تصرفت بطريقة ضبط النفس، فقد أظهرت أزمة الطائرة العسكرية مرة أخرى، أن النظرة السلبية في الرأي العام التركي تجاه روسيا موجودة في الواقع، ولكنها في انتظار اللحظة المناسبة لتعلن عن نفسها من جديد. وكما لوحظ من جراء الأزمة الأخيرة، فمن المحتمل جداً لروسيا أن ترى تركيا باعتبارها طرفاً فاعلاً في الجبهة الغربية المناوئة لها، والتي استقرت مؤخراً على أنظمة رادار حلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة في شرق الأناضول.
خاتمة
تمتعت العلاقات التركية ـ الروسية ببعض التحسن في العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية في فترة ما بعد الحرب الباردة. وأدى الإحباط في علاقات كلا البلدين مع أوروبا في منتصف التسعـينيات من القرن الماضي إلى سرعة تحسن واستقرار المنطق الدولتي في العلاقات بين البلدين. ونتيجة لذلك، فقد ازدهرت العلاقات الاقتصادية عن طريق خطوط أنابيب الطاقة المختلفة، وقطاع البناء والتشييد بالإضافة إلى شركات السياحة. وبدوره، أدى تحسن العلاقات الاقتصادية إلى التأثير إيجاباً على العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين البلدين، وخلق ترابطـات معقدة.
على الرغم من كل هذه التطورات، وهذا المناخ الجديد، الذي كان مدعوماً بقوة من قبل نهج عملي لإدارتي بوتين وأردوغان، إلا أن إزالة التحيز التقـليدي تماماً من كلا الجانبين لا يعد أمراً واقعياً. يتشارك البـلدان في أكثر من خمسة قرون من التاريـخ، الذي يتـشكل بالـكامل من ذكريـات مريرة. والذكريات الأخيرة المتكونة خلال الفترة العثمانية المتأخرة لا تزال حية بين الـرأي الـعام التركي، حيث تم استنساخها من جديد في توترات الحرب الباردة. وبناء على ذلك يمكن تقدير أن تركيا، التي تعرف جناحا قويا لليمين السياسي، ستظل ناظرة إلى «Moskof» (روسيا) باعتبارها تشكل تهديدا لأمنها القومي. ويستدعي هذا الفهم «أزمة الثقة» التقليدية بين الجانبين مرة أخرى، حتى على مستوى القضايا التي لا تتعلق بالعلاقات التركية – الروسية المباشرة.
تحتاج تركيا وروسيا إلى العمل الجاد لإزالة الأحكام المسبقة المتبادلة وانعدام الثقة، إذا كانتا تريدان حقاً بناء مستقبل أكثر أماناً للأجيال القادمة. وقتها فقط يمكن أن تستحق «الشراكة متعددة الأبعاد» معناها الحقيقي، وبما يتجاوز كونها منحصرة في الجانب الاقتصادي.
الأستاذة في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية – جامعة يلديز التقنية اسطنبول.