الجميع يستعدّون لحرب طويلة في سوريا
على مدى نصف قرن، أدار السوريون حروب لبنان وتسوياته. وعندما انصرفوا إلى حروبهم الخاصة، «ضاع» اللبنانيون. فهم لم يعتادوا القيام بشيء بأنفسهم لأنفسهم: لا التقاتل بِلا رعاية… ولا التسوية بِلا وصاية!
اللبنانيون يلاحقون اليوم سوريا إلى عقر دارها، ليطالبوها بدعمهم. والمراهنون على الاستقواء بها، ما زالوا يراهنون، ولو كانت سوريا غارقة في دمائها، ولو كان أبناؤها ينزحون بعشرات الألوف إلى لبنان طلباً للمأوى. ويَنتظر كثير من المتنازعين في لبنان أن ينتصروا على خصومهم اللبنانيين بالدعم الذي سيأتيهم من سوريا، عندما يَنتصر حليفُهم السياسي – المذهبي.
لكن السيناريو الذي يتداوله ديبلوماسيون ومطّلعون في العمق على الملف السوري هو الآتي: لا أفق لانتصار أحد هناك، ولا ملامح لتسوية في المدى المنظور. فالحرب طويلة في سوريا، وستقودها إلى اهتراء كامل بدأت تظهر بوادره في بعض المناطق وستتسع تباعاً. وإذا كانت القوى اللبنانية المتنازعة تراهن على الحسم في سوريا لتحسم في لبنان، فذلك يعني أنها ستنتظر كثيراً، وبلا جدوى، وستغامر بالبلد. فلن يكون في الحرب السورية رابح وخاسر، حتى إشعار آخر.
وفقاً للسيناريو المتوقّع، لا النظام سيعاود الإمساك بسوريا مثلما كان على مدى نصف قرن، ولا معارضوه قادرون على ذلك. وستغرق سوريا في الفوضى والسلاح لمدة طويلة، وستقود القوى الإقليمية والدولية حروبها الخاصة على أرض سوريا التي ستتوزّع مناطق نفوذ، تماماً مثلما خاضت سوريا والقوى الأخرى حروبها في لبنان.
هذه الصورة هي تكرار لما جرى في لبنان. فالحرب التي بدأت باغتيال النائب معروف سعد في صيدا عام 1975، لم تنتهِ بحادثة التعمير في صيدا، أي بعد مرور 37 عاماً. وهي تحوَّلت وتَغيَّر شكلُها وأطرافُها وأهدافُهم عشرات المرّات. وثمة خشية من أن تكون الحرب في سوريا مشابهة، وأكثر دراماتيكية. وخلال اندلاع النار السورية، ستكتمل العناصر لإنضاج “طبخات” في الأنظمة والخرائط على كل الرقعة الشرق أوسطية، من الأردن إلى غزة إلى سواهما.
«كلمة السرّ» وحدودها
لذلك، فإن “كلمة السرّ” الدولية في ما خصّ لبنان هي الآتية: إدارة الأزمة اللبنانية تحت السقف، لئلّا تنتقل الحرب الأهلية السورية إلى لبنان. فاللبنانيون خاضوا حروبهم واستنفدوا على مدى نصف قرن مخزون الاحتقان الكامن في لبنان، وليست هناك حاجة إلى استخدام لبنان ساحة للنزاع بعدما انفتحت ساحات أخرى. لكنه ربما يبقى صالحاً ليكون صندوق بريد للرسائل الساخنة، شرط عدم انفلاتها مجدداً.
ومن هنا يمكن إدراك المغزى من المسعى الفرنسي – السعودي، القائم على أنقاض الـ “س- س” للتعذُّر. فالمطلوب تثبيت الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي في المرحلة الطويلة من الحرب السورية، والتي ربما تتخللها حروب مفتوحة أخرى في دول أخرى من الشرق الأوسط، وحرب غزة أحد مؤشراتها.
الفرنسيون، ومعهم السعوديون، ليسوا في المطلق لا مع إسقاط حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ولا ضدها. إنهم مع ضمان “النأي بالنفس” عن النار السورية، ومع سلوك متوازن وغير استفزازي للقوى المشاركة في الحكومة. وإذا ما حصلوا على ضمانات بذلك، فلا مشكلة في استمرار الحكومة. أما إذا تورَّطت الحكومة في الملف السوري إلى جانب النظام، وحاولت استغلال السلطة لقهر المعارضة وإقصائها في الانتخابات المقبلة، وتجاهل الضغوط الأمنية والسياسية التي تتعرض لها، فإن الحكومة ستكون عندئذٍ سبباً لضرب الاستقرار، ويجب تغييرها.
فالمطلوب من هذه الحكومة، دولياً، هو تعهدها وإثبات صدقيتها في توفير حرية الممارسة السياسية للمعارضة بعيداً من التهديدات والاغتيالات، وتأمين الظروف لانتخابات نيابية نزيهة في مواعيدها الدستورية، تؤسس لإجراء انتخابات رئاسية في العام التالي.
وفي الخلاصة، يميل المجتمع الدولي إلى تشجيع القوى الوسطية على كسر ثنائية “8 و14 آذار”، والتي
لا مجال لانتهاء مفاعيلها ما دامت المعادلة الحالية قائمة في سوريا. وهناك اقتناع بأن ضمان الاستقرار حالياً هو أن تبقى القوى الوسطية قوية، وأن يتّسع نطاقها لتشمل قوى من مناطق مختلفة، بحيث تكون هي الممسكة بدفّة السلطة الشرعية عملياً، مقابل إمساك حلفاء دمشق بورقة السلاح على الأرض.
إنها إدارة للأزمة، ومدّة صلاحيتها طويلة بمقدار ما تطول الحرب في سوريا. ويبدو اللاعبون في لبنان في حاجة دائماً إلى الوصي الذي يقودهم إما إلى التوافق وإما إلى التقاتل، فيما هم عاجزون عنهما معاً.
ويبقى السؤال: ماذا لو تراجعت إرادة القوى الدولية والإقليمية، أو وَجدت منفردة أو مجتمعة، أن من مصلحتها استخدام الساحة اللبنانية مجدداً ساحة قتال، أي ساحة نُصرة أو جهاد، لهذا الطرف أو ذاك من أطراف النزاع الإقليمي الدائر؟