في مواجهة غزة… روسيا تمكّنت فجأةً من فرض كلمتها

امتنع الروس عن الدعوة إلى التصويت على قرارهم، لكن لو لم يتبلور اتفاق تجريبي على أرض الواقع، لكان الروس قد طرحوا قرارهم مطالبين فيه بوقف إطلاق النار.

بدأت الأحداث الميدانية تتحرك بسرعة في غزة مع إعلان وقف إطلاق نار تجريبي بين إسرائيل و”حماس”. ينطبق الأمر نفسه على المساعي الدبلوماسية في الأمم المتحدة، حيث يكشف الصراع المستجد في غزة عن بعض الخصومات الغابرة، كما أنه يؤلب مواجع العلاقات القديمة بين القوى النافذة. بدأت القصة في مارس 2011، حين تصاعدت أعمال العنف في سورية بشكل حاد. خلال الأشهر العشرين اللاحقة، لعبت روسيا دوراً تخريبياً لإعاقة المحاولات الأميركية الرامية إلى إدانة الرئيس السوري بشار الأسد في مجلس الأمن.

ترتبط روسيا بعلاقات تاريخية وعسكرية مع الرئيس السوري بشار الأسد، لذا ترددت في التماشي مع قرارات بقية أعضاء المجلس (وبقية دول العالم) للضغط على الأسد من أجل إنهاء الحرب أو التنازل عن السلطة. استعملت روسيا حق النقض ثلاث مرات في مجلس الأمن (إلى جانب الصين)، فمنعت فرض أي نوع من العقوبات ضد الأسد، ما دفع الولايات المتحدة إلى إدانة سلوكها.

وبينما كان الوضع مشتعلاً، حصلت موسكو على فرصة رد الجميل ووضع الولايات المتحدة في موقف محرج عبر إجبارها على استعمال حق النقض في قضية مثيرة للجدل. يبدو أن موسكو تستمتع بفرصة قلب الأدوار.
يوم الاثنين، قال فيتالي تشوركين، السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، أمام المراسلين: “صرح أحد أعضاء مجلس الأمن، وأنا واثق بأنكم تعرفون من أعني، بأنه لن يكون مستعداً للتماشي مع أي رد في مجلس الأمن. سيؤدي ذلك إلى إضعاف الجهود الراهنة التي تقوم بها مصر في المنطقة”. ثم اتهم ذلك البلد الذي لم يسمه بالمراوغة والتخريب.

بشكل عام، تبذل الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن قصارى جهدها لتجنّب استعمال حق النقض. لاشك أن هذا القرار يشير إلى العزلة الدبلوماسية التي يواجهها البلد الذي يختار استعمال حق النقض، ما يثبت أن البلد المعني يعارض قضية تحظى بتأييد واسع. (لتمرير أي قرار، لابد من حصد تسعة أصوات إيجابية من دون أن يستعمل أي بلد حق النقض). بسبب هذه القاعدة، تبقى أصوات النقض نادرة.

لكن في بعض الأحيان، تواجه الدول موقفاً محرجاً وتُجبَر على الكشف عن نواياها الدفينة. من وجهة نظر روسيا، هذا ما فعلته الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى بحق موسكو حين دعت مجلس الأمن إلى التصويت لإدانة الأسد. صحيح أن أغلبية دول العالم (ولاسيما جامعة الدول العربية) انحازت إلى الولايات المتحدة وأوروبا، لكن روسيا أصرت على إعاقة القرارات السورية رغم كل شيء.

يوم الثلاثاء، اعتمدت الولايات المتحدة الطريقة نفسها في مجلس الأمن لإعاقة بيان مستوحى من مسودة مغربية ويدعو إلى وقف الأعمال العدائية في غزة.

أرادت الولايات المتحدة أن يذكر البيان بشكل خاص اعتداءات “حماس” الصاروخية باعتبارها السبب الأصلي للأزمة الراهنة، وهو أمر لم يكن الأعضاء الآخرون مستعدين للاعتراف به. أثناء إعداد مسودة النص المغربي، أعدّ الروس اقتراحهم الخاص الذي لا يلبي المطلب الأميركي بذكر “حماس” كسبب أساسي للمشكلة. على عكس النص المغربي، كانت المسودة الروسية عبارة عن قرار رسمي، ما يعني أن طلب التصويت عليها قد يُجبر الولايات المتحدة على استعمال حق النقض إذا أرادت الدفاع عن إسرائيل.

بما أن الوضع كان يشير إلى احتمال إعلان وقف إطلاق النار يوم الثلاثاء، امتنع الروس عن الدعوة إلى التصويت على قرارهم. لكن لو لم يتبلور اتفاق تجريبي على أرض الواقع، لكان الروس قد طرحوا قرارهم مطالبين فيه بوقف إطلاق النار.

إذا دعا القرار “حماس” إلى وقف إطلاق الاعتداءات الصاروخية، فقد يحظى بدعم معظم أعضاء المجلس حتى لو لم يذكر أن “حماس” هي السبب الأساسي لأعمال العنف. هكذا ستضطر الولايات المتحدة إلى التصويت على القرار ودعم وقف إطلاق النار رسمياً أو استعمال حق النقض لمعارضة القرار، مع ان المسؤولين الأميركيين يدعون راهناً إلى تقليص أعمال العنف.

في المقابل، إذا صمد اتفاق وقف إطلاق النار بين “حماس” وإسرائيل، فمن المنطقي أن نتوقع من مجلس الأمن دعم وقف إطلاق النار رسمياً. لكن حتى في هذه الحالة، قد يجد مجلس الأمن صعوبة في تمرير القرار

.
يذكر تقرير مجلس الأمن أن “المعطيات نفسها التي صعبت الاتفاق على بيان صحافي يعبر عن المخاوف من تصاعد العنف قد تعوق احتمال التوصل إلى اتفاق مناسب لإقرار الهدنة”. بعبارة أخرى، قد تتردد الولايات المتحدة في دعم وقف إطلاق النار في غزة رسمياً إذا لم يتضمن القرار أبرز مطالبها.

يبدو موقف الولايات المتحدة ضعيفاً في هذا الملف وتدرك روسيا هذا الواقع. إذا لم تعدل الولايات المتحدة هذا الموقف، قد تواجه أصواتاً قوية جداً في مجلس الأمن خلال الأيام المقبلة.

* مدير تحرير موقع UN Dispatch الذي يسجل نشاطات الأمم المتحدة والدبلوماسية الدولية

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *