حلب إلى معركة فاصلة… وطويلة: من يسيطر على ساحتها اليوم؟
أربعة أشهر مرت على المعارك في حلب. تلك المدينة لا تشبه غيرها من المدن السورية الغارقة في الصراع، فهي ببساطة قد أصبحت نقطة فاصلة في النزاع. هنا أراد مسلحو «الجيش السوري الحر» أن تكون بمثابة «أم المعارك» التي ستمثل بداية النهاية للنظام الحاكم، وهنا أيضا أرادها النظام معركة الحسم لمدينة لطالما تغنت بهدوئها. لكن النتيجة ان «الشهباء» تحترق. كل ما فيها يحترق. حتى الثورة ذاتها. النظام ما زال متمركزاً في بعض المناطق، وما زال محافظاً على العديد من مراكزه العسكرية والأمنية على الرغم من تعرضها لقذائف ومحاولات اقتحام عديدة، بينما تسيطر المعارضة المسلّحة على أحياء أخرى. أما الريف فهو خارج سلطة النظام، حتى المعابر الحدودية مع أرض «العثمانيين».
لكن من هي هذه المعارضة المسلحة التي تحكم في تلك المناطق؟ هي أشبه بمزيج من قوى سلفية و«جبهة النصرة» وكتائب مسلحة متفرقة وألوية تتصرف على أنها الحاكم بأمره. لها الحق في القتل والإعدام والسرقة وفرض الإتاوات بحجة دعم الثورة، والويل لمن يعترض.
في المقابل، ما زالت هناك ثورة سلمية تتنفس في حلب. هنا أيضا يرفع المتظاهرون الصوت عالياً تجاه كل من يتسلق ثورة الشعب أو يحاول فرض رأيه بقوة سلاحه. قد لا يستجيب أحد لكنها رسائل تتراكم فتعطي أثرها. وبين السلاح والعمليات العسكرية، ما زال الحلبيون يحلمون بغد أفضل على الرغم من التدهور المعيشي الحاد الذي يغرقون به وعلى الرغم من نزوح الكثيرين وتوقف عجلة الحياة في الكثير من المناطق، ولكن الجميع يتفاءل. معادلة حلبية تحتاج الى البحث أكثر في تفاصيل الحياة اليومية للسكان.
من يحكم حلب اليوم؟
سؤال كان السبب الأساسي لزيارة عاصمة سوريا الثانية. لكن بداية، لا بدّ من سؤال تمهيدي: ماذا يحدث في حلب؟ لا تصل من هناك سوى أنباء القصف والاشتباكات والاقتحامات اليومية، ومعها عمليات «جبهة النصرة» وبيانات شبه يومية يتبعها نفي معتاد من الجيش النظامي الذي يؤكد استعادة السيطرة. لكن أين الحقيقة؟ ولمَن الغلبة على الأرض ؟ قد تكون الإجابة صادمة نوعاً ما، لكنه الواقع: الفوضى.
في البداية، كان العمل السلمي هو سيّد الموقف، والمبادرة كانت لجامعة حلب ما شجع أحفاد عبد الرحمن الكواكبي على الثورة أكثر. ثم تزايدت التظاهرات حتى وصل مسلحو «الجيش الحر» بهدف «حماية التظاهرات السلمية»، بحسب ادعائه، لتتحول حلب بعد ذلك إلى ميدان قتال لا حدود له. وباتت القاعدة اليوم: أنت مسلح إذاً أمرك مُطاع، افعل ما شئت، فثمة من سيبرّر لك ويدافع عنك، ففي «الثورة» يجوز ما لا يجوز في غيرها..هكذا يروي طبيب شاب كيف تمت سرقة تجهيزات تابعة لمستشفى «الكندي» من قبل أحد المسلحين ثم عاد واتصل بالأطباء فيه مبلغاً إياهم عرضه الأدوات للبيع وإلا فستُباع للجار التركي.
ولتكتمل سخرية المشهد، يضيف الشاب، أرسل مقاتلون من «جبهة النصرة» بضرورة الاستمرار في عمل المستشفى، بل تأمين ضمانات للأطباء كي يتمكنوا من الحضور والعمل، وهو ما عارضه «لواء التوحيد»، صاحب السلطة الأقوى على الأرض في حلب. ولا تتوقف المسألة هنا، فالكثير من المعامل التي تقع في الريف تعرضت للسطو أو التدمير على ايدي مسلحين بينما لا تتردد مجموعات أخرى في خطف من تشاء وإعدام من تشاء. والتهمة جاهزة دائماً: «شبيح»، «عوايني»، «متعامل مع النظام»، وبالطبع ثمة دائماً من يبرّر كل ذلك، حتى لو استفحل الأمر كثيراً.
في المقابل، يعتبر ناشط مقيم في حلب أن هناك رأياً عاماً في المنطقة يتجه إلى غضّ النظر عما يحدث ما دام يصبّ في إطار التجاوزات الفردية التي يمكن ضبطها، وما دام التركيز الأساسي ينصبّ على دعم الثورة وإسقاط النظام. ما سبق يستهجنه آخر قائلاً «عن أي تجاوزات يتحدثون؟ لقد سكتنا طويلاً عن حالات فردية فتكاثرت وأصبحت سرطاناً يصعب استئصاله»، ليضيف «المشكلة ليست بالسلاح، بقدر ما هي اليد التي تحمل السلاح.. هناك قادة في الكتائب المقاتلة يقرون أمامنا بصعوبة قدرتهم على ضبط المسلحين المنضوين تحت رايتهم». بدوره، يشير آخر إلى كارثة وقع بها «لواء التوحيد» تتمثل في فتح أبوابه لمختلف المتطوعين، فانضم الكثيرون تحت رايته ولم يعد هناك سلطة تضبط ما يحدث.
وفي السياق ذاته، يلفت أحدهم إلى أن معظم المقاتلين هم من ريف حلب وإدلب وحماه ودير الزور، أما العرب فهم قليلون للغاية. لكن المحصلة أن كثيراً منهم قدم إلى حلب بخلفية تقول ان ما تعرضت له حمص لا بد من أن تذوقه «الشهباء»، وان المدينة لم تقم بالثورة كما يجب. بل ذهب أحدهم، على حد وصف الناشط الشاب، إلى الحديث عن أن أهل المدينة لا يدعمون الثورة، لذلك ينبغي التعامل معهم كموالين للنظام!!
كلام ينفيه ناشطون آخرون، مؤكدين على ذلك بالإشارة إلى «الاحتضان الاجتماعي» الذي يلقاه «الجيش الحر» في بعض المناطق، ويعود ذلك إلى سلوك الكتائب المتمركزة في هذه الأحياء. لكن أين هي الهيئات الشرعية والمحاكم التي تشكلت في المناطق «المحرّرة» عما يجري من تجاوزات؟ يجيب حقوقي بأن سلطتها تبقى مجرّد إصدار أحكام قد يلتزم بها البعض، بينما تتجاهلها الأغلبيّة، باعتبار أنه لا توجد لها قوة مسلحة ترغم الباقين على الانصياع لتشريعها. لكنه يعود ويستدرك موضحاً أن إعلان تشكيل لواء مقاتل يتبع لـ«الهيئة الشرعية» و«جبهة علماء حلب» يبقى المعضلة الأكبر في المجموعات السلفية وأكبرها «جبهة النصرة «. يشير العديد من النشطاء إلى أن عددهم ما زال قليلاً مقارنة ببقية الكتائب، لكنهم الأكثر عنفاً وتنظيماً وتسليحا وتمويلاً . ويستذكرون، في هذا الإطار، عملية تفجير ساحة سعد الله الجابري التي لقيت من الانتقادات كمّاً كبيراً، لكن ذلك لم يُثنِ التنظيم الموالي لـ«القاعدة» عن إعدام جنود للجيش النظامي وبث المقاطع على شبكات التواصل الاجتماعي، ثم القيام بسلسلة تفجيرات استهدفت مراكز عديدة تابعة للسلطة، ولا يتردد في تنظيم تظاهرات في بعض المناطق تدعو فيها للخلافة الإسلامية، ويشنّ هجوماً على الطوائف والأقليات .
باختصار، الحاكم الأول والأخير في حلب هو السلاح. سلاح الجيش النظامي، أو سلاح اللجان الشعبية أو سلاح «الجيش الحر»، بمختلف كتائبه، وسلاح «جبة النصرة». أما المحكوم فهو واحد: أبناء حلب.
بستان القصر.. الوجه الآخر
في حيّ بستان القصر، يمكن رؤية الوجه الآخر لـ«الثورة» السورية بعد أن اتسمت بطابع المعارضة السلمية. البستان يتقاطع إلى حدٍّ كبير مع نظيره الإدلبي كفرنبل. الاثنان يرفعان السقف عاليا دفاعاًًً عن الثورة السلمية التي لا بد من أن تبقى شاء من شاء وأبى من أبى. ويشير ناشط الى أن هناك شيئا من أزمة الثقة بين أطياف الثورة، فالكثير من أنصار «الجيش الحر» يعتبرون العمل السلمي حالة من التنظير والكلام في الهواء، والعكس صحيح. بالنسبة لبعض القائمين على «السلمية»، والذين لا يستطيعون تفهم «الجيش الحر» ولا حتى ظروفه يحاولون نقل موقفهم لـ«الجيش الحرّ» من تفاصيل تتعلق بسلوكهم وتعاطيهم مع الناس. وبالفعل استجاب الكثيرون ونجحوا في الحدّ من تصرفات المسلحين. لكن ذلك لا يسري على جميع الكتائب التي يتجاهلنا بعضها ويهاجمنا آخرون، وذلك تبعاً لمرجعية كل كتيبة، على حدّ قوله.
بدوره، يتحدث آخر عن «مأساة كبرى» يعيشها البستان، وتتمثل في النازحين الذين قرروا البقاء في حلب حيث يتزايد الضغط البشري يوماً تلو الآخر، في وقت يبدو الوضع المعيشي سيئاً للغاية، وذلك في ظلّ هستيريا الفساد التي تغرق بها العديد من مؤسسات الثورة، وقبلها شحّ الموارد. وعند السؤال عن سبب نقص الموارد ما دام الريف الحلبي «محرّراً» ومعظم الطرق التي تصل حلب بتركيا تحت سيطرة المعارضة المسلحة، يجيب الشاب أن المعابر الحدودية تشهد يومياً زيارات لشخصيات عدة من المعارضة يكتفون بالتجول والتقاط الصور ثم العودة، وكان آخرهم وفدا من «الإخوان المسلمين» قبل أيام. أما المساعدات الإنسانية فتصل بالفعل، لكن بكميات قليلة جداً. ويعقب ساخراً: ربما تتساقط قيمتها على الطريق! ويشير آخر من جهته إلى فرق الإغاثة التي ما زالت تعمل ولكنها تحت رحمة النظام قبل المعارضة، بدءاً من الهلال الأحمر وصولاً إلى منظمات أهلية تعمل بأقصى طاقاتها في وقت تزيد الكثافة السكانية الهائلة، المسألة تعقيداً