سعود الاسدي و”التيه الأخير”

 الاسدي شاعر انيق شفاف وزجال كبير اثبت حضوره على خريطة الادب الشعبي الوطني والانساني الفلسطيني ، واعطى اهتمامه لقضايا الوطن والانسان البسيط الحالم والباحث عن الرخاء والفرح الدائم. وقد صال الاسدي وجال في قرانا ومدننا العربية من الشمال حتى الجنوب ، صادحاً على انغام الردة الديراوية، بالاشعار الشعبية المحكية والاغاني التراثية الطافحة بالصدق والعفوية ، والعابقة برائحة ثرى الوطن وشذا زيتون الجليل.

 وكان لسعود الاسدي نشاط ثقافي وادبي متعدد الجوانب ، وقد شارك في العديد من الندوات الادبية والثقافية وقدم محاضرات متنوعة حول التراث الفلسطيني والادب الشعبي العامي ، والقى قصائده من على منصات مهرجانات يوم الارض والمناسبات الوطنية . وفي اوج الانتفاضة الفلسطينية الاولى اعتقل واودع في السجن لانه هزج للانتفاضة وانشد للحجر الفلسطيني . وسعود الاسدي يعانق في نصوصه الشعرية الابداعية وقصائده المحكية واهازيجه الشعبية هموم الوطن وجراحاته واحزانه واجواء قرانا الفلسطينية ، ويجسد مأساة شعبنا بابعادها الوطنية والسياسية والاجتماعية ، ويملأ حياتنا بالتفاؤل والأمل رغم الوجع والألم ، ويتغنى بجمال بلادنا وطبيعتها الخلابة الغناء ، وأشجارها اليانعة وارفة الظلال ، وبيادرها وحواكيرها وينابيعها وبساتينها الخضراء .

 كما يتغزل بحواري الوطن وصباياه الجميلة غزلاً عنيفاً ، ويحاكي المنزرعين الصامدين في وطنهم المتمسكين بجذورهم التاريخية وهويتهم الكنعانية الفلسطينية ، ويخاطب جياع الوطن القلبضين على الجمر والمكافحين لاجل ازاحة الليل عن صدورهم، والمشردين في مخيمات الجوع والفقر والشقاء ، الذين يتحرقون شوقاً وحنيناً لملامسة ثرى فلسطين المقدس. ويهتف سعود ايضاً للفلاحين والكادحين البسطاء ، الذين خرجوا من الصخور والاشجار والامواج واغلال القهر والتخلف واصداف التكلس،ويبحثون عن العيش الحر الكريم . ويناجي ابطال انتفاضة الحجارة ، الذين تحدوا الحواجز والسدود والسواتر الترابية والحصار بصدورهم دفاعاً عن الشمس والحرية .

 وكما عودنا سعود الاسدي على التألق والتوهج في قصائده وازجاله واهازيجه الشعبية والوطنية ، فقد توهج في رائعته “التيه الأخير” ، التي نشرت قبل سنوات خلت في “الاتحاد” و”فصل المقال” و”الأخبار” النصراوية ، حيث سخّر فيها ملكته الشعرية وفجّر طاقاته الابداعية ، فجاءت من فطرة الشعور والاحساس الغامر، لتلامس القلب والوجدان وتسحر النفس والروح، بعذوبتها ورقتها وطلاوتها وتماسكها الفني ، وترابطها العضوي، ومضامينها العميقة.

 وكانت هذه القصيدة اثارت الأصداء لدى متذوقي الشعر الجميل والابداع الراقي ، وذلك لمضمونها واسلوبها الرهيف الشفاف ومفرداتها الفنية الزاخرة بالخصب والايحاء والخيال الجامح ، ولغتها المستمدة من الموروث الشعبي والديني والتراث العربي الاصيل . وقد اثبت ابو تميم بقصيدته هذه ،بأنه مثلما يجيد الحداء والزجل وقول الشعر الشعبي ، فانه يجيد كتابة القصيدة الفنية الابداعية ذات المضامين الجمالية العميقة والرؤية الانسانية الواضحة. وغني عن القول ، ان “التيه الاخير” لوحة ربيعية زاهية الألوان تؤكد عشق سعود الأسدي ، الذي بلغ من العمر عتياً ، للجمال والحب والوجه الحسن ، فيهيم ويتيه في العيون الجميلة ، التي سحرته وقتلته ، ويبحر في عباب الذاكرة مستعيداً “زمان التباهي” حين كان شاباً يافعاً تحيطه الصبايا والفاتنات من كل جانب.

 لقد كتب وقيل الكثير في شعر سعود الاسدي ، واجمع الكتاب والنقاد على شاعريته الخصبة ومقدرته على الخلق والابداع والصياغة الفنية وانتقاء الكلمات والمفردات، واستلهام التاريخ، وتوظيف التراث العربي في خدمة اغراض وابعاد ومحاور قصائده . واننا نلمح اثر ثقافته وقراءاته ونهله من عيون وينابيع الشعر العربي القديم واضحاً في هذه القصيدة وسواها من الروائع. وقد احسن صنعاً في توضيح الكثير من المفردات لكي يسهل على القارئ فهم وهضم محتوى قصيدته ، دون عناء التنقيب عن معانيها في بطون الكتب ومعاجم اللغة. اخيراً، فأن قصيدة “التيه الاخير” تمثل انعطافة في مسيرة عطاء سعود الاسدي الأدبية ، لما تحمله من تأملات عاطفية ، وومضات روحية، وتجربة حياتية. ولا نختلف اذا قلنا ان حياتنا الأدبية بحاجة لمثل هذه القصائد الصافية ، ذات الخيال الخصب، واللغة السهلة القريبة من الذائقة الجمالية للشعب، خاصة في هذا الزمن الذي امتلأت فيه حياتنا بالشعر الرديء الفج والمستوى الهابط ، واختلط القمح بالزوان.

 فطابت انفاسك يا ابا تميم ودمت معطاءً وذخراً لحركتنا الثقافية الوطنية والانسانية ، لكي تبقى تتحفنا بالشعر الناعم الرقيق .

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *