إعيدوا لنا بغدادنا البهية

باتت الوظيفة العالية رديفاً للفساد.. قد لا يكون الأمر هكذا فعلاً، فمن بين هذا الكم الهائل من أصحاب الرتب والمقامات، لابد من وجود عدد من النزهاء، وهذا أمر لا جدال فيه.. ولكن من ذا الذي يقنع المواطن الإعتيادي بوجود مثل هؤلاء فعلاً، وهو يرى ويسمع يومياً قصص الفساد التي تتكرر، وعلى نحو مضطرد، وعلى الأغلب أبطالها من أصحاب الرتب العالية والمقامات الرفيعة.

 ليس كل من يشار له بأنه فاسد، هو فاسد حقيقة، رغم أن الفساد أصبح قاعدة والنزاهة إستثناء، في حكومة أستسهلت الإعتماد على قليلي الخبرة، والجهلة أحياناً، والذين وجدوا في إنعدام الرقابة والمحاسبة مناسبة قد لا تتكرر، للنهب، فالنكاية، والحرب السياسية غير النزيهة بين الفرقاء، تلك التي لا تتلزم الحد الأدنى من أخلاقيات الصراع، الهادف أساساً لمصلحة الشعب والوطن، وكل حسب منظوره، تواصل مهاتراتها وأكاذيبها، مما يصعب على المتابع الوصول إلى الحقيقة، إلا أن المؤكد، والواضح الشديد الوضوح أن جميع الفرقاء مشتركين، بهذا القدر أو ذاك في رذيلة الفساد، ونهب المال العام .

 ورغم أن مقامات كبيرة مارست النهب، وأنكشف أمرها، فإن لا أحد من أصحاب المقامات الفاسدة دخل السجن، بدءاً من المفسدين في وزارة الدفاع، من وزير دفاع بريمر، وصولاً إلى آخر وزير دفاع تُثار حوله الشبهات، مروراً بوزراء التجارة، والكهرباء، وكل قيادات الصف الأول، التي إنتقلت فجأة من العيش على الإعانات الإجتماعية، وقعر القاع، إلى قمة الرغد والبذخ، وسطوة المال، التي تُرجمت إلى جاه وسطوة ونفوذ، ينافس جاه وسطوة ونفوذ السلطة ومؤسساتها، لا بل يتجاوزها في أغلب الأحيان، فإن تكون تحت رعاية وحماية رأس من الرؤوس التي كبرّها السحت الحرام، فإنك ستكون فوق الدولة وقوانينها، ولا يوجد شيء لا يمكنك الحصول عليه، وبالأخص الإشترك في حفلة النهب، التي يبدو أن لا أحد يريد وضع نهاية لها. وعلى كثرة ما نُهب، جهاراً وعياناً، من مليارات ينبغي أن تساهم في إنتشال الشعب من الحال التي أصبح عليها، بعد توالي النكبات، فإن الدولة، بكل مؤسساتها، لم تستطع إلى الآن إعادة ولا دولار واحد، من هذه المليارات المنهوبة، والمسروقة بأشد وسائل السرقات إنحطاطاً وبدائية، وما زال )الفاسدون الناهبون( يتمتعون بما سلبوه، ويشترون المزيد والمزيد من العقارات، والشركات، ولا يتنقل بعضهم إلا بطائرته الخاصة.

والطامة الكبرى أن الحكومة بدل تشديد العقاب على الفاسدين والمزورين والمرتشين، وناهبي المال العام، تفكر بالعفوا عنهم، هذا إن لم تكن قد عفت عن الكثيرين منهم!!

ألا يُعد مثل هذا الإجراء إجازة وشرعنه للتزوير والنهب، في دولة عليها أن تحارب التزوير والنهب بأشد الوسائل وأمضاها، بعد أن تعدت مضار هذه الآفات حتى مضار الإرهاب ذاته، لا بل هي أشد من الإرهاب أذى، لأنها تغتال مستقبل ومصير الشعب كله. ألا يستحق حجم المال المنهوب، تشكيل هيئة قانونية خاصة، مهمتها متابعة إسترداد هذا المال من ناهبيه، وتقديمهم للقضاء العادل لينالوا جزاءهم، على أن تقدم هذه الهيئة جرداً بما قامت وتقوم به بين الفينة والأخرى، يقدم للبرلمان، وينشر على الرأي العام، قصد تثبيت الرقابة والمتابعة الشعبية، خصوصاً وأن الثقة تكاد تكون معدومة بإجراءات السلطة التنفيذية جراء تراكم الوعود التي لم تنفذ !

. لماذا يرقد في السجن من أخطأ ببضعة آلاف من الدنانير، ويسرح ويمرح في مباهج أوربا وأمريكا، وبعض البلدان العربية من نهب المليارات من الدولارات التي كان مؤتمناً عليها؟ ولماذا لا تتم تعرية هؤلاء، وبالوسائل المتاحة كافة، كي يكونوا عبرة لمن إعتبر؟ لماذا ما زالوا يحضون من قبل المسؤولين الحاليين بكل وسائل التبجيل والتقدير والإحترام؟

لو أن الفضائح تتعلق بفضائح العمولات ( التي هي رشاوي) في الصفقات الكبرى لهان الأمر، فحيث أنك تتعامل مع شركات رأسمالية وإحتكارية، فإن العمولات ( الرشاوي ) هي عنوان التعامل مع هذه الشركات، والعراق ليس إستثناءاً في هذا، ولكن الأمر الأشد تلك العقود الكبرى مع شركات وهميّة، ومع شركات مسجلة من قبل عراقيين، أو عرب تمويهاً بعشر باونات، أو بضعة دولارات أو يوروات في أوربا وأمريكا، وهي شركات ليس لها من وجود حقيقي، قامت وتقوم بنهب المليارات من أموال الشعب، وبحماية عرابين متنفذين في الدولة، أو القوى والأحزاب والتكتلات المهيمنة، وبمختلف العناوين.

 أما الحديث عن مقاولات المجاري، والمجسرات، وتبليط الأرصفة، والشوارع، والبناء، والترميم، فتلكم حكايات لا تخطر على بال مبتدع، فالأرصفة التي تم إنجازها يُعاد من جديد إعادة رصفها، وبنوعية أردأ، دون أن تعرف الحكمة في هذا، ولكي يبدو المقاول مهتماً بمظهر العاصمة والمدن، فهو يضع في الجزرات الوسطية (مزهريات)، نعم (مزهريات) قد تصلح للوضع في حدائق البيوت، يغرز فيها شُجيرات، وأوراد، سرعان ما تذبل وتموت.

أما المجاري، فحكايتها حكاية، إذ يبدو أن مدَّ شبكات المجاري عمل خلاق لا ينجز بعقد من السنين، رغم أن شبكة المجاري في المحافظات فضيحة ما بعدها فضيحة، وأنابيب المجاري تنخسف حتى قبل أن تدفن في التراب. لقد لا حظت مدينة محفورة شوارعها كلها تقريباً، ومنذ سنوات، بحجة إكمال مدّ شبكات المجاري، التي لم يتم إنجازها منذ عشر سنوات، وهي مدينة صغيرة، يمكن بناء مدينة غيرها، وبأعلى المواصفات الحديثة بأقل من هذه المدة، بناءاً على تطور وسائل البناء الحديثة، لكن هذه المدينة يعاني شارع رئيسي وتجاري من شوارعها لا يتجاوز طوله الكيلومتر واحد الأتربة والقاذورات، وتجمع المياه الآسنة، منذ ما يُسمى بالتحرير وإلى الآن.

 لا شيء يشمخ في بغداد والمدن الأخرى .. لا معلم بارز أو حتى متواضع .. حتى البنايات التي تهدمت، أو تدمرّت كلياً أو جزئياً، جراء قصف المحتلين، ما زلت خرائب، كما هي، ولا يعلم أحد متى يتم ترميمها، أو هدمها، أو إعادة بناءها، وهي بنايات تشغل أماكن هامة وحساسة في العاصمة، أما قلب بغداد ( شارع الرشيد، والجمهورية، والكفاح، والساحات من باب المعظم، وحتى ساحة التحرير) فهي نموذج الخراب، والفوضى، والقذارة، ولا أظن أن ثمة عاصمة في الدنيا لديها هذا الكم من القبح، والإهمال. ما الذي يفعله أمين العاصمة، الذي صك آذاننا بمشاريع تجميل شارع الرشيد، وشارع النهر، وإنشاء أجمل شارع في الدنيا؟

 أين محافظ بغداد؟ أين الدولة؟ ماذايفعل الوزراء؟ أين تذهب المليارات التي تجاوزت المائة مليار سنوياً؟ كيف تغمض عيون هؤلاء، وبغداد على هذه الحال، من الذل والمسغبة، والإهمال؟ أعيدوا لنا بغدادنا البهيّة أو إتركوها لأهلها، وغادروها غير مأسوف عليكم.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *