أميركا والنخب العراقية
يعتقد استاذ العلوم السياسية الاميركي «رولاند هوب» بأن الدراسة التاريخية الحالية «للسياسة الخارجية» الاميركية يمكن أن تتكثف «اصطلاحياً» بالحرب على العراق، وهي باختصار شديد كما كتب المفكر «دوغلاس كيلنر»: إن حرب العراق هي النموذج العالمي الجديد لحروب ما بعد «المعاصرة».
وبالرغم من أن «هوب» يعالج في نقده السياسي الأطروحة الملتبسة للمؤرخ الاميركي «بيتر هاهن» حول «قرن من العلاقات الاميركية العراقية»، على ضوء «مسلمة» باردة حول الصعود «التاريخي» للبلدين، وازدهار اميركا «ديمقراطياً» وأفول امكانية التغيير «الديموقراطي» في العراق وانسداد آفاقه، فإنه يثبت مقولة تواطؤ «المؤرخ» مع المؤسسة الحاكمة
. ألم يقل «هاهن» بأن «السنة» في العراق أقلية أثنية لضرورات الاحتلال أم التحرير، فيتحول «التاريخ» إلى بحث دراسي «طالبي» ساذج وهو يتناول بخفة لأخطر علاقة مرت بها اميركا في المنطقة. لقد حاربت اميركا العراق مرتين واحتلته وما زالت. إن «المصطلح» الاميركي هو الوحيد القادر على تحويل «سياسة الزوارق المسلحة» إلى تعاضد استراتيجي لا مثيل له لمواجهة الأخطار المحدقة بالبلدين.
اميركا والعراق في المنطقة! من هنا فقد تحول البحث «التاريخي» إلى انخراط «ديبلوماسي» في الطور الأول من العلاقة وبعدها تبدل إلى تفاعل «ثقافي» نموذجي كما تروج له «الليبرالية» الاعلامية لمثقفي «البلانكيت» حسب الاستعمال السائد الآن في الصحافة الليبرالية الاميركية الحقيقية وليست العدوانية والداعية إلى الحروب والاحتلالات والتدخل «العسكري» الانساني ونمطه الفاقع أطروحات «كنعان مكية» في دراساته الأخيرة في جامعة «برانديز» الصهيونية شكلاً ومحتوىً.
أن الأهم من الخوض في مياه هذه «الكتابة» التاريخية لا بد من التوقف أمام «الدراسة النقدية» القديرة «للسياسة الخارجية الاميركية» خلال قرن، من قبل الخبيرين: «ديفيد سيلفان، وستيفن ماجيسكي»، حيث يعتقد الخبيران، وعلى عكس الشائع المتعمد، بأن السياسة الخارجية الاميركية كانت من خلال المؤسسة الاميركية المستدامة عموماً، وخصوصاً اتجاه العراق، دائماً «ثابتة» ومستقرة في «الجدليات»، ولكنها في «الشكليات» تظهر وكأنها متغيرة مع الأهداف التكتيكية للادارة الاميركية وطموحات الرئيس «المؤقت». فهي ثابتة ومستقرة سواء في «الأدوات» أو في «النهايات».
وهي ترسم «التحدي» التاريخي بتحويل الأقطار والشعوب والأمم إلى «توابع» مباشرة أو غير مباشرة ضمن «امبراطورية» شاسعة يطلق عليها مسمى:
«امبراطورية حكومات الوكالة ـ client states». إن مهمتها باستمرار الانخراط في سياسة عدوانية ضد «الأعداء» ولاسيما الذين كانوا في فترة ما «أصدقاء» أو «حلفاء» في مناطق جغرافية مختلفة من الكوكب. لكن المتغيرات «المتطورة» دائماً تلوح في استعمالات هذه «الأدوات» وتحولها بطريقة جدلية إلى «الحل» الذي يتطابق بصورة «مدهشة» مع الأغراض الامبراطورية.
«فالإسلام السياسي» عدواني، شرير، ظلامي، إرهابي، تتعارض مفاهيمه الدينية البنيوية مع الديمقراطية الاميركية ونمطها في الحياة! أما حالياً فهو معتدل، مقبول، يميل إلى الفهم والتفاهم، ضد الاستبداد، ويؤمن بالتعددية ومبدأ تداول السلطة، كما أنه متشبث بأهمية «السوق» في التنمية الاقتصادية، ولاسيما في إيمانه القاطع بالدور المركزي للمنظمات الدولية وفي مقدمتها «الوكالة الدولية للتنمية الاميركية ـ usaid» وامتداداتها الاقليمية والعربية.
لقد وصلت أميركا الآن إلى دائرة الانحطاط «الانتقائي الايديولوجي» في فرز مصالحها عن الخط العام لمصالح «الناس» في المنطقة، وها هي تريد عزلهم عن «التاريخ»، والتصنيف «الايديولوجي» الآن بكون هذه الكتل «البشرية» ورغباتها «الانسانية» صديقة أم عدوة. فالهدف المباشر دائماً هو إفناء «الحل» لدى «الأداة» التاريخية وتحويله إلى «الحل» الاميركي! لقد رفعت حركات «الاسلام السياسي» في العقود السابقة شعارها الشهير «الاسلام هو الحل»، أما الشعار «البديل» الآن فهو «السلطة هي الحل» وبعد ذلك لكل حادث حديث. ومادامت الفكرة المركزية هذه ،السلطة هي الحل، للمعارضات العراقية سابقاً، فإنه لا يمكن التحاشي أبداً عن التطابق «المدهش» بين العطش العارم لهذه المعارضة وبين أهمية وضرورة التشريعات الاميركية «الدستورية» لصياغة قانون «رقم 105 ـ 338» للعام 1998 ـ قانون تحرير العراق، ومن ثم بعدها تنفيذ خطة «عملية 500 ساعة» لتغيير النظام في العام 2003 عن طريق الغزو والاحتلال.
اعتبار «السياسة الخارجية» أن بعض الحكومات «وكلاء» والآخرين «أعداء» هي الثابتة في المتغير «التكتيكي» والذي يعتمد على «ثلاثة معايير زمنية مختلفة»: – الأول ـ السياسة المباشرة: اليوم باليوم، وهي حين تكون المشكلة مباشرة وتستدعي تنفيذ السياسة القائمة. الثاني ـ السياسة «العرضية» بالمعنى «الزمني» وليس «الفكري»، حين تفشل السياسة الأولى، أو تلوح علامات الفشل، ومن ثم تجب إعادة تقييم هذه السياسة. الثالث ـ «الحقبة»: وهي سبيكة مختلطة من «الزمن والسياسة»، وهي تحصل عندما يكون هناك «إحساس ما» بأنه توجد، أو تلوح في الآفاق، انعطافة تاريخية، من صنعها أو خارج إرادة دورها، هنا يجب أن تكون في متناول «اليد» الاميركية حصراً. من هنا وفي سياق تحول «العموم» إلى «الخصوص» يجب التأكيد على أن الخطأ هو في «نوعية» «الأداة» المستعملة وليس في «كيفية» استخدامها واستطاعة هذه «الأداة» للتحول إلى «الحل» الاميركي.
من هنا فإن المحاولات التي جرت، والراهنة أيضاً، هي توظيف المحيطات الجديدة دائماً في المكان والزمان، واستعمال نظريات «التنظيم» ووسائلها العقلية وذلك لمنحها القدرة على شرح وتوضيح الأشكال المتعددة للاستمرارية «السياسية» وهاجسها «الأدواتي». وبغض النظر عن العلاقة الشائكة مع الأهداف الطويلة الأمد، وذلك بالتركيز على توفير «الامكانات المدمجة» مع المنظمات «السياسية» المطلوب تحويلها إلى «أدوات». هنا النموذجية التاريخية في التعاون مع «طالبان» وكيف قلبت الأخيرة ظهر المجن لأميركا وأجبرتها على احتلال «افغانستان» مرتين، الأولى «منصة» «للحل» والثانية «منصة» «للأدوات» المستعملة الآن في المنطقة العربية.
وعليه يمكن الاستنتاج بدون مجازفة عن العلاقة القائمة بين اميركا و«النخب» العراقية، خصوصا ضمن تاريخ «القرن» الكامل للعلاقات الاميركية العراقية عموماً. هذه العلاقات «المتغيرة» شكلياً ضمن «الثابت» التاريخي الجدلي، ومن المستطاع أن نلخص هذه «المحطات» بطريقة «كرونولوجية سياسية» أكثر من أن تكون مسحاً طوبوغرافياً للوقائع الصارخة والأفكار المتخيلة. ولا مناص من «البوح» بالسر «العلني» للسياسة الخارجية الاميركية إزاء العراق في الشروط التاريخية المتناوبة للتطور العراقي في جوانبه الثابتة والمتغيرة أيضاً.
إن المحطة الأولى تشمل الأعوام من 1920 ـ 1958، وهي تتخذ عنوان تناقض لـ«النأي» عن السيطرة الديبلوماسية البريطانية مع «التدخل» من بعيد والسعي إلى قيادة «النخب» من الأمام والعمل على إنضاج «أدوار استحالة» – بيوتيكس، لنخب جديدة مطلوبة لتحويل «البور» البريطاني إلى «فلاحة» اميركية جديدة و«الأداة» الجاهزة والمنتقاة «تاريخياً» هي «البونابرتية العسكرية» المتضورة جوعاً نحو السلطة السياسية! إن الشغل الجوهري هنا هو «عزل» العراق عن «فلسطين» و«الوحدة العربية» ومحاولة التفاهم وإعادة «المحاصصة» مع الشركات النفطية، وأهمها «موبيل اكسون»، والاهتمام بمشاريع «الاعمار» من «النقطة الرابعة» الاميركية إلى «مجلس الاعمار» الحكومي. وكانت الحلقة المركزية في «السياسة العسكرية» هو ربط البلاد بالأحلاف الدولية والاقليمية لمجابهة الخطرين الشيوعي التقليدي والوطني العربي المتمثل بصعود «الناصرية» المصرية وأهدافها العربية.
لقد كانت حرب 1991، والحالة «الانتظارية» للسياسة الاميركية إزاء العراق والمنطقة تتلخص بالمصطلح الذي نحته «مارتن انديك» وهو «الاحتواء المزدوج» وهو البديل البلاغي للفكرة المركزية التي طرحها «جورج بوش الأب» في اطروحته حول «النظام العالمي الجديد» والمستند نسيجها من نهاية «حقبة الحرب الباردة» وبداية «الاحادية القطبية» الاميركية في العالم! وتلخصت هذه السياسة في العراق: 1- رفض الانقلاب العسكري 1- التأكيد على الفدرالية الكردية ضمن الخط الأزرق 3 ـ التحول من صيغة التحالف مع «التسنن السياسي» في المرحلة السابقة إلى التعاون مع «التشيع السياسي» في المرحلة الجديدة. 4 ـ محاربة «التشيع العربي» بالحماسة نفسها في مكافحة «التشيع الايراني» في المنطقة سواء في حدوده الجغرافية أو تخومه التاريخية.
وأخيرا فإن «ديفيد سيلفان ـ ستيفن ماجيسكي» يؤكدان أن «مرحلة» 2003 ولحد الآن، هي في الاحتلال والبقاء بأشكال مختلفة وملتبسة، وقد نجحت اميركا في بناء «حكومة الوكالة» التابعة فعلياً للامبراطورية الاميركية المنحدرة بدون توقف! وذلك بفضل شبكة علاقات متداخلة عالمية واقليمية أخذت تسمية وصفة ومحتوى «الكوندومينيوم» المباشر وذلك من أجل «تصحيح» الوضع العراقي في «تاريخه» الخاص والعام! أما «النخب» العراقية المرتبطة بهذه العجلة فإنها تعيش حالة من «الحبور» الوجداني الأقرب إلى النشوة التي تصاحب «حليب السباع» المشهور في بلاد الرافدين! وهي إذ تردد كلمات «السيادة والاستقلال» وتهدد بطرد الوجود الاميركي من البلاد فهي تشبه إلى حد بعيد كلمات جواب «مارثا» إلى زوجها «جورج»، حين طالبها بالطلاق، في مسرحية «ادوارد البي» الرائعة «من يخاف فيرجينيا وولف»: لو كنتَ موجوداً لطلقتك!
سياسي وكاتب عراقي