رماد الحطب
لم أعرف أبداً غير رماد الحطب في الليل. النار أضاعت مفاتيح أحلامي كما إنني لم أعرف سوى إشارات قليلة عن الغيوم، تلك الغيوم العابرة، مع ذلك أظنها ستمطر هذه الليلة في روحي. أريد صخباً عالياً، أريد حقولاً من الضوء، أمكنة جديدة أحبها ثم أهجرها، كما يحدث دائماً.
أنا رجل متعب، أوهامي تتقدمني، والأشياء تختفي أمام عيني كلما حاولت لمسها. أنزل إلى الساحة فأرى البشر يتقدمون دوماً إلى الأمام بسرعة وبخطى واثقة. لا أحد يتوقف، لا أحد لديه وقت للتفكير، لا أحد ينظر إلى الوراء، فيما أنا أفكر بحيواتي الماضية، بالنثار الرمادي البارد الذي يغطي هذه المدينة ويغطي العالم أيضاً. لقد جاءت الحرب، لقد قُصفتُ في نومي، لقد مات صديقي الموسيقي أديب عيسى بانفجار في الدماغ عندما عرف أن الحرب في الطريق، لقد توقفت الموسيقى، لقد عادت دودة الشقيقة إلى الرأس، لقد أصبح الشارع فارغاً وأنا أقفُ أمام باب المحطة، وأفكر كيف استطاع بول ايلوار أن يضع جناحين ملونين لفتاة صغيرة، طارت بهما لمدة يوم واحد فقط.
أنا أيضاً رجل ميت، أحب أن أشم رائحة الأزهار ورائحة العشب ورائحة الماء في الأواني الخزفية، ثم أقف أمام بوابة القلعة وأنادي بأعلى صوتي على الأعداء المختبئين في زوايا الليل وسيفي يلمع مثل لعاب الحلزون. أرى الجميع ولا أحد يراني، لأنني ميت، ولأنني مغلف بصوف الغياب، ولأنني أنام تحت الأرض وأنتقل مثل ذكرى بعيدة. أينبغي عليَّ أن أعيش هكذا مثل طائر غريب، يتذكر وقائع ماضيه، المندثرة ويضرب بجناحيه الجدران الأرضية، الكئيبة، كي ينسى الشجرة العالية، والجبل الشاهق والبحيرات الزرقاء.
خطوتي غير مرئية، لكنها تطأ الآن الحجر البركاني الأسود، المرصوف على الساحة. كل شيء أمامي يبدو قريباً وبعيداً في وقت واحد. كأن كل شيء ينبغي أن يكون ضبابياً، أمام رجل ميت يستطيع بالكاد، أن يرفع رأسه من القبر. في داخلي غيمة ستمطر، حالوباً، ريشاً أبيض، ليس هنا، ليس هناك، بل هنالك، في البراري البعيدة، تحت أشجار الأكاسيا والجبال السوداء. لم يتساءل حينها، أحد عن الغيمة الفاحمة التي علقت في قلبك وأنت تؤدي صلاة اللا أحد. لكنني أنا الآن هنا، أمام باب المحطة.
الطرق سالكة ولا أستطيع أن أختار. كل طريق يؤدي إلى مكان وكل مكان يؤدي إلى الخوف، أتردد، أتلفت بكثرة، أنتظر شيئاً ما كأنني ميت رومانسي.
لقد مضت تلك السنوات، عندما كنت أجلس فوق أريكة الضوء وأنظر إلى الزهرة من النافذة العالية، وأتفحص الحقيقة فوق راحة يدي ومع ذلك كنت دوماً أبحث عن شيء ما، عن دالة، عن إشارة ولو صغيرة، لكي تكون الحياة أقل قسوة، والآن وأنا ميت ما الذي أنتظر، رجل ميت ماذا ينتظر أكثر من هذا؟