الولايات المتحدة وألمانيا تدركان حقيقة بوتين

تنشغل الولايات المتحدة وألمانيا بمشاكلهما الخاصة. ويبدو أن روسيا مستعدة للتعاون مع الغرب، مع أن الكرملين سيتابع على الأرجح استعمال الخطاب المعادي للغرب لأسباب سياسية محلية.

بدأ الغرب يغير نظرته تجاه روسيا. في شهر سبتمبر، تبنّى البرلمان الأوروبي قراراً ينتقد تسييس قرارات المحاكم في روسيا. في شهر أكتوبر، اقترح البرلمان الأوروبي أن يبتكر المجلس الأوروبي “لائحة ماغنيتسكي” الخاصة به. ثم في شهر نوفمبر، تمت المصادقة على قانون ماغنيتسكي في مجلس النواب الأميركي، وأصدر مجلس النواب الاتحادي الألماني قراراً صارماً ينتقد إقدام الكرملين على قمع حقوق الإنسان وعناصر أخرى من المجتمع الديمقراطي.

ربما تنذر هذه الخطوات بنهاية أوهام واشنطن وبرلين بشأن احتمال اندماج روسيا في عهد بوتين ضمن المعسكر الغربي. لا شك أن تبني قانون ماغنيتسكي ينهي سياسة إعادة ضبط العلاقات التي سبق أن طبقتها واشنطن بينما يشير قرار مجلس النواب الاتحادي الألماني إلى نهاية التجارب الألمانية الرامية إلى عقد “شراكة معاصرة”.

لكن في الوقت نفسه، لا يعني فقدان الصبر من سلوك الكرملين أن واشنطن وبرلين أصبحتا مستعدتين لإنهاء سياسة إعادة ضبط العلاقات مع موسكو بالكامل. تنشغل الولايات المتحدة وألمانيا بمشاكلهما الخاصة. ويبدو أن روسيا مستعدة للتعاون مع الغرب مع أن الكرملين سيتابع على الأرجح استعمال الخطاب المعادي للغرب لأسباب سياسية محلية.

تسود وجهات نظر واقعية في العاصمتين. هما تدعوان إلى متابعة التعاون مع روسيا مهما كانت الظروف على اعتبار أن كل شيء سيكون على ما يرام إذا لم يتعرض الكرملين للانتقادات. على صعيد آخر، تواجه الولايات المتحدة وألمانيا ضغوطاً كثيرة من شركات مهمة ستستفيد حتماً إذا قررت الحكومتان التساهل مع الكرملين.

لكن من خلال دعم قانون ماغنيتسكي، أوضحت الولايات المتحدة أنها مستعدة للبحث عن توازن جديد مع روسيا فضلاً عن اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه سياسات الكرملين التي تقمع المجتمع. لقد اقترب الكونغرس من إنشاء نموذج جديد من العلاقات مع الأنظمة الفاسدة بناءً على مبادئ وشروط معينة. يبدو موقفه من منتهكي حقوق الإنسان في روسيا واضحاً: ستتوقف قدرتكم على الاستفادة من الامتيازات الأميركية على سلوككم محلياً!

تتماشى برلين مع المقاربة الأميركية، فهي تظن أنها تستطيع متابعة تعاونها المعتاد مع الكرملين تزامناً مع التحاور مع المعارضة. في الشهر الماضي مثلاً، حين زارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل موسكو، وقّعت في البداية على اتفاقيات مع الكرملين ثم تسنّى لها أن تصافح الناشطين في مجال حقوق الإنسان. يبدو أن هذا السلوك مرتبط بالمشاعر العامة السائدة في ألمانيا، لكن هذا الوضع لن يُقنع الكرملين بتعديل أفعاله. كذلك، من المعروف أن هذه “المبادرات السياسية” لا تصب في مصلحة المعارضة الروسية والمجتمع المدني، ما يسمح للكرملين باعتبار تلك الجماعات طابوراً خامساً.

كيف سيرد نظام بوتين على خيبة الأمل السائدة في واشنطن وبرلين؟ هو لن يسعى على الأرجح إلى التعامل مع الشركات الغربية لمجرد أنها ضرورية لدعم دولته المبنية على عائدات النفط وضمان اندماجها ضمن المعسكر الغربي. في غضون ذلك، ستتحمل المنظمات غير الحكومية المدعومة من الغرب عواقب سياسات النظام الروسي

.
يبدو أن الكرملين يريد إخبار الغرب بأنه سيجعل المعارضة والمجتمع المدني رهينة لديه. قد ترد الحكومة عبر تعقيد إجراءات السفر إلى الخارج بالنسبة إلى قادة المعارضة. في النهاية، ما الذي يبرر منح قادة المعارضة، من أمثال ميخائيل كاسيانوف وبوريس نيمتسوفور وغاري كاسباروف، ميزة السفر حول العالم إذا كانوا لا يتوانون عن “التشهير” ببوتين؟

تكمن المفارقة في واقع أن المسافة التي تفصل بين الغرب وروسيا قد تساعد الكرملين على تنفيذ عقيدته في مجال السياسة الخارجية. تقول تلك العقيدة: “سنتعاون معكم في المسائل التي تهمّنا، لكن وفق شروطنا الخاصة”. تبدو هذه العقيدة قديمة ولكنها تتضمن منحىً جديداً. كان الكرملين يقول إن روسيا هي عبارة عن نظام ديمقراطي. أما اليوم، فهو يعتبر أن روسيا تجسّد حضارة فريدة من نوعها وهي تتبع مسارها الخاص.

لن يكون التعاون الغربي الخجول كفيلاً بمنع الكرملين من التعاون الاقتصادي مع الغرب. ستحتفظ روسيا أيضاً بدورها الجيوسياسي بفضل تعاونها مع الغرب في المسائل الأمنية. في الوقت نفسه، سيحاول النظام إعاقة أي تدخل خارجي في شؤون روسيا الداخلية تزامناً مع تصعيد الخطاب المعادي للغرب. بالتالي، يبدو أن النموذج السوفياتي في مجال السياسة الخارجية عاد إلى الحياة لكن مع فارقين. أولاً، يفضّل الكرملين سياسة الاحتواء الهادئة على المواجهة المفتوحة. ثانياً، تفضّل النخبة الروسية الحاكمة الاندماج ضمن معسكر الغرب بدل أن تبقى معزولة.

لا شك أن مقاربة الغرب الجديدة ستسرّع انقسام النخبة الروسية الحاكمة بين الفئات التي تهتمّ بفتح الحدود وتلك التي تحاول الاحتفاظ بالسلطة حتى لو جازفت بعزل روسيا. لا شك أن الخيارين ليسا مثاليين. لكن قد يمهّد الشرخ ضمن النخبة الروسية إلى إرساء واقع جديد. ستكون المعارضة الروسية والمجتمع المدني مسؤولَين عن إنشاء دولة مبنية على حكم القانون بدل تجسيد دولة مفتوحة جديدة قد تدمج النخبة الحاكمة الفاسدة ضمن معسكر الغرب.

بالتالي، يبدو أن المواقف المستجدة في واشنطن وبرلين وبروكسل تفتح مجالاً جديداً أمام الغرب وروسيا. لكن لم يتضح بعد ما إذا كانت تلك المواقف ستُنتج سياسة جديدة أو مجرد نسخة مقلّدة عن السياسة القديمة

.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *