في ولايته الثانية: رهان أوباما على «الإخوان»

يفتح الانتصار الانتخابي للرئيس الأميركي الجديد القديم باراك أوباما الأبواب أمام استكمال مشروعه في السياسة الخارجية عموماً والشرق أوسطية خصوصاً، أي تحقيق المصالح الأميركية عبر ترتيبات وتوازنات دولية وإقليمية جديدة تعتمد «القوة الأميركية الناعـمة» لتـعزيز دور الولايات المتحدة الأميركية في العالم. وإذ ثبت فشل القوة العسكرية كأداة حصرية لحفظ المصالح في فترة حكم الجمهوريين، فقد كان الوعد بالتغيير طريق أوباما إلى ولايته الأولى التي شهدت خطوات على هذا الطريق، فيما يتوقع أن تشهد ولايته الثانية خطوات أبعد على المضمار ذاته. ترتكز القوة السياسية في النظام الدولي على عوامل أربعة أساسية هي القدرة الاقتصادية، القوة العسكرية، التفوق التكنولوجي، والنفوذ الثقافي.

 ويثبت تقليب النظر في المؤشرات أن موقـع أمـيركا المتمـيز في النظـام الـدولي ما زال قائماً؛ بالرغم من تراجعه النسبي في العقدين الأخـيرين. ما زالت الولايات المتحدة الأميركية الاقتصاد الأقوى في العالم متفوقة على الصين والاتحاد الأوروبي، مع التسليم بتراجع حصتها في الاقتـصاد العـالمي من 25% في مطلع القرن الجديد إلى 19% فقط في نهاية عام 2011. كما أن الولايات المتحدة الأميركية هي أكثر دول العالم في الإنفاق على التسلح وبفارق شاسع عن كل منافسيها، حيث تستحوذ أميركا وحدها على نصف هذا الإنفاق. ولم تنفك الولايات المتحدة حائزة تفوقاً تكنولوجياً نسبياً أمام منافسيها وأقربهم في هذا المضمار اليابان، ونفوذاً ثقافياً عالمياً يتضح عند مقارنته بمثيله لدى الصين مثلاً.

 ولكن متابعة المؤشرات الأربعة ذاتها لأميركا ومنافسيها، وإمعان النظر في وتيرة صعودها وهبوطها تنبئ بأن التغيير في النظام الدولي يبدو متوقعاً بل مرجحاً بعد عقدين من الآن إذا سارت الأمور بالوتيرة نفسها. يمثل الشرق الأوسط بموارده الهائلة من الطاقة أهمية فائقة للولايات المتحدة الأميركية في إطار سعيها لإدامة مصالحها فيه، وهي المصالح القادرة على حسم التنافس الأميركي مع الأقطاب الدولية الأخرى، وبالتالي التأثير في وتيرة الصعود والهبوط والاحتفاظ في النهاية لأميركا بموقعها الاستثنائي في النظام الدولي. تأسيساً على ذلك تأتي هذه السلسلة من التحليلات حول سياسات أوباما المرتقبة حيال الأقطاب الإقليمية في الشرق الأوسط: إيران، مصر، تركيا، إسرائيل والسعودية لتحاول استشراف السياسة الأميركية في السنوات الأربع المقبلة حيال كل قطب منها.

مصر والمصالح الأميركية خلال ستين عاماً

تملك واشنطن مع القاهرة علاقة تاريخية مركبة، وينطبق ذلك على كامل الفترة الممتدة منذ عام 1952 حتى الآن. تعي واشنطن أن مصر الدولة العربية الأكثر سكاناً في المنطقة، والتي تملك موقعاً جغرافياً – سياسياً يتحكم في قناة السويس ويجاور إسرائيل، تؤثر إلى حد كبير بمعادلات القوة في الشرق الأوسط. وهنا لم تلعب الأيديولوجيا يوماً الدور الفيصل في ترجيح خيارات الإدارات الأميركية المتعاقبة حيال مصر، بل مصالح أميركا الوطنية. ومع قيادة مصر العالم العربي طيلة الفترة الممتدة منذ عام 1955-1967، بالتوازي مع وراثة أميركا نفوذ بريطانيا في الشرق الأوسط، فقد احتفظت واشنطن مع القاهرة بعلاقات ملتبسة. ومع تبلور الطموح المصري في الإقليم، فقد حرصت واشنطن على حصر الخلاف في رقعة مصالحها الوطنية فساندت خصوم النظام الناصري في المنطقة؛ إلا أنها حافظت على شعرة معاوية معه فصدّرت القمح إلى مصر في أوج أزمات سياسية كثيرة.

 ولكن طموح مصر الناصرية وانخراطها في قضايا المنطقة على نحو خاصم مصالح واشنطن دفعا الأخيرة إلى إعطاء الضوء الأخضر لعدوان 1967، وإلى ترتيب انتقال مصر الكامل إلى المحور الذي قادته مع وصول الرئيس الراحل أنور السادات إلى الحكم. انتهج الأخير سياسات اقتصادية – اجتماعية مغايرة لسلفه، وهو ما سمح لواشنطن بخلق طبقة من رجال الأعمال والمصالح في مصر ترتبط مباشرة بها. ومع تحول المؤسسة العسكرية المصرية منذ منتصف السبعينيات إلى واشنطن تدريباً وتسليحاً ومصالح، فقد نجحت واشنطن في خلق أرضية جديدة ومعادلات داخلية مصرية مواتية لمصالحها.

أنهت «معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية» حالة الصراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتركت آثارها على موازين القوى في المنطقة بما يخدم المصالح الأميركية. وبالرغم من تلك الخدمات الكبرى فقد كانت أحلام السادات المطالب بـ«مشروع مارشال للشرق الأوسط» متجاوزة بكثير لرؤية واشنطن الخاصة بحدود الدور المصري في المنطقة وقتذاك. ومع اغتياله في خريف العام 1981، فقد انفتح الطريق أمام تغيير في القيادة المصرية، يسمح بتعميم مشروع السادات على المنطقة ولكن دون شخصه، الذي فقد الكثير من الرصيد مصرياً وعربياً واستنفد أغراضه أميركياً.

أعاد الرئيس الجديد حسني مبارك علاقات مصر العـربية المقـطوعة بسبب الصلح مع إسرائيل فعمم نهج التسوية، وانتهـج سياسات اقتـصادية – اجتماعية أفدح من سلفه، ولكنه لم يملك الطموح الشخصي الذي امتلكه السادات، ما ساهم في استطالة حكمه ثلاثة عقود. كانت مصر مبارك طوع بنان واشنطن، فساهمت بالمشروع الأميركي بكل ما أمكنها في كل الأزمات الإقليمية الفاصلة التي عصفت بالمنطقة (حرب الكويت 1991، احتلال العراق 2003، حرب لبنان 2006، حرب غزة 2008-2009). وبالرغم من كون مبارك «كنزاً استراتيجياً» لإسرائيل وتحالفه الوثيق واللامشروط معها، فقد أصبح عجزه ونظامه عن خدمة المصالح الأميركية واضحاً للعيان في محطات كثيرة منها: محاولته توريث السلطة لنجله، تهاوي ديكور الديموقراطية الكرتوني الذي حاول تسويقه، وحصاره الفاقع لقطاع غزة وقلة حيلته في دول الجوار المصري، فضلاً عن تردّ شامل وعدم قدرة موصوفة على المشاركة بالصراع السياسي والأيديولوجي الدائر في المنطقة.

الأدوار الجديدة لمصر الإخوانية

مع قيام «الربيع العربي» وسقوط مبارك على أثر الانتفاضة الشعبية، لعبت واشنطن أوراقها بمهارة، حيث تعاطف أوباما مع طموحات المصريين بأبلغ العبارات: «نريد تربية أطفالنا ليكونوا مثل الشباب المصري». وعبر علاقاتها المؤسسية والمتشابكة مع المؤسسة العسكرية؛ فقد ساهمت واشنطن إلى حد كبير في رسم خريطة الطريق التي عرفتها مصر منذ انتفاضتها الشعبية 2011 وحتى الآن. وبسبب نفوذها الواضح بين أصحاب المصالح الكبار وأنصار النظام السابق في المؤسسات الأمنية، بالإضافة إلى قطاع كبير من الحلقة الاقتصادية المؤثرة في صنع المناخ الإعلامي، فقد احتفظت واشنطن بأوراق كثيرة على المسرح المصري، بالرغم من بروز قوى متنوعة، ليبرالية وقومية ويسارية، لا تملك الروابط ذاتها.

 وتدخلت واشنطن في لحظات حرجة للضغط على المؤسسة العسكرية في محطات فاصلة مثل الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة – حسب ما قال المشير حسين طنطاوي – لإعلان فوز المرشح الإخواني لا خصمه. وظهر الإسناد الأميركي في محطات أخرى مثل زيارات هيلاري كلينتون المتكررة إلى القاهرة في لحظات حرجة (قبل يوم واحد من إصدار الإعلان الدستوري الأول ويوم واحد من الإعلان الدستوري الثاني)، وتدخل واشنطن المعلن لدى صندوق النقد الدولي لتقديم قرض بقيمة خمسة مليارات دولار لمصر (الأهمية ليس في حجم القرض بل لرمزيته الدولية)، يبدو واضحاً أن واشنطن تبسط حمايتها على النظام الجديد في مصر. تقوم حسابات واشنطن على أن تيار الإسلام السياسي يملك أكبر كتلة في الشارع المصري، وأن التنظيم الدولي للجماعة يملك حضوراً ونفوذاً معنوياً كبيراً في الشارع العربي، وبالتالي يمكن لواشنطن تحقيق جملة من الأهداف بالتعاون مع مصر الجديدة.

يتمثل الهدف الأول من التفاهم مع الجماعة في مصالح جيو-سياسية عميقة تتعلق بتصميم جديد للشرق الأوسط على أنقاض الاصطفاف السابق، بعد أن أثبت «محور الاعتدال العربي» عجزه عن مجاراة المحور الذي تقوده إيران في السنوات العشر الماضية، فأحرز المحور الإيراني حضوراً سياسياً في عراق ما بعد صدام، وفي الإمساك بكل مفاصل السلطة في سوريا، وفي التحالف مع حركات المقاومة في لبنان والأراضي الفلسطينية. وبالمقابل فقد تراجع «محور الاعتدال»، الذي قادته السعودية ومصر مبارك لعوامل كثيرة تتعلق بغياب المشروع الوطني والإقليمي لكليهما، ما دفعهما إلى التمترس في موقع الدفاع عن الأمر الواقع ولا شيء غير ذلك. ولأن واشنطن تريد خلق اصطفاف سني في مواجهة اصطفاف شيعي، تم العمل عليه بشدة خلال العقد الأخير في مراكز الأبحاث الأميركية والإقليمية وفي وسائل الإعلام، وغذته على أرض الواقع شواهد وشكوك والتباسات وحقائق، تعود إلى محطات تاريخية حديثة وقديمة في الشرق الأوسط.

 تبدو جماعة «الإخوان المسلمين» فرس الرهان الأميركي لخلق المكافئ السني للتمدد الشيعي، بغطاء دولي وإسناد إقليمي (قطري – تركي حالياً). تملك الجماعة من المظلومية التاريخية والاضطهاد في سجون «النظم العلمانية» ومن الوجود التنظيمي في كل البلاد العربية، ما يؤهلها لامتلاك الأيديولوجيا الإسلامية القادرة على مواجهة أيديولوجيا الطرف الآخر، وبما لا يملكه أي فصيل سياسي آخر. وتتمثل المصلحة الثانية في الحسابات الأميركية في قدرة الجماعة المتفاهمة مع واشنطن على تخفيف التصادم الغربي – الإسلامي واحتواء الاتجاهات الإسلامية الراديكالية في المنطقة، ولتحسين صورتها في العالم الإسلامي.

أظهر العدوان الإسرائيلي الأخير على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، أن الجماعة تصرفت كشريك مسؤول للتوصل إلى وقف إطلاق نار، توطئة لما يسمى «هدنة طويلة» تحقق أهداف أميركا و«حركة حماس» في الاعتراف بسيطرتها على القطاع وفك حصاره، ولكنها أيضاً تمهد الأرضية لإخراج الأخيرة من المحور الذي تقوده إيران، وهنا تبدو المصلحة الثالثة الأميركية واضحة أيضاً. وتتعدى فوائد جماعة «الإخوان المسلمين» الحاكمة في مصر قضايا الشرق الأوسط ـ من المنظار الأميركي – لتصل حتى إلى بناء حائط صد كبير في مواجهة خصوم الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، لا سيما روسيا والصين. ومع تبني «الإخوان المسلمين» للتصورات النيو-ليبرالية في الاقتصاد وعدم تحديهم مراكز الاقتصاد العالمي (على غرار حزب العدالة والتنمية التركي) تكون الأرضية قد أصبحت ممهدة لدمج طموحات «الإخوان المسلمين» في الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية، ما يدعم بقوة خيار التحالف معهم.

معادلة العائد والتكلفة

ستظل واشنطن في كل الأحوال محتفظة بعلاقاتها السياسية والاقتصادية ومع المجمع العسكري – الأمني في مصر وقوى سياسية أخرى بغرض تنويع مصادر قوتها، ولضمان خيارات بديلة لها في أي وقت. ولأن الأزمة الاقتصادية المصرية ستستمر وربما تتفاقم في السنوات المقبلة، بغض النظر عن أيديولوجيا الحاكمين في مصر، ستملك واشنطن أوراقاً إضافية فائقة القوة حيال الحكم الجديد في مصر. وفوق كل ذلك ينضوي التحالف الإقليمي المساند للصعود الإخواني بكامله تحت العباءة الأميركية، وبالتالي تعتقد إدارة أوباما أن لديها بوليصة تأمين قوية حيال أي خروج إخواني محتمل عن السيناريو المرسوم.

 وفق ذلك المقتضى ستعود مصر إلى لعب أدوار إقليمية جديدة، ويضمن «الإخوان المسلمون» اعترافاً أميركياً بسلطتهم الجديدة، وإذا كان المطلوب من أوباما فوق ذلك غض النظر عن دستور يؤسس لدولة دينية عبر مضمونه وروحيته، ولا يلقي بالاً كثيراً للحريات الفردية ويفرق بين المواطنين المصريين حسب الدين والجنس، ولا يعرف للعدالة الاجتماعية طريقاً، فلا مشكلة حقيقية أمام الإدارة الأميركية. ستبدع القريحة الأميركية في إنتاج سياقات جديدة لما يجري في مصر لتغطية مصالحها فيها وستر التناقض بين ما تعلنه من قيم وما تنتهجه من سياسات، أي باختصار Business as usual

رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية-القاهرة

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *