هل سيفترق الثنائي الروسي «بوتين ـ ميدفيديف»؟

إن المتابع للمشهد الروسي الداخلي منذ عودة فلاديمير بوتين إلى الكرملين، وتنصيبه رئيساً لولاية ثالثة في مايو/أيار من العام الجاري، يمكن أن يرصد توتر العلاقة بينه وبين رئيس الحكومة دميتري ميدفيديف. ومن المعروف أن بوتين هو من اختار ميدفيديف ليخلفه في رئاسة الدولة في العام 2008، في عملية أشبه بـ«توريث» السلطة داخل الدائرة الضيقة للطبقة الحاكمة في روسيا. وكان هذا التوريث الثاني للحكم بعد التوريث الأول، الذي جرى في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، عندما وقع اختيار حاشيته على فلاديمير بوتين، غير المعروف آنذاك على نطاق واسع، ليحل محل الرئيس العجوز والمريض. وعندما حل موعد الانتخابات الرئاسية في مارس/ آذار 2012، أعاد ميدفيديف «الأمانة» لصاحبها مقابل توليه منصب رئيس الحكومة، في مشهد أقرب «لتبادل» السلطة منه «لتداول» حقيقي لها، أو في مشهد يمكن أن نُطلق عليه «لعبة الكراسي الرئاسية».

غير أن وقائع الداخل الروسي، في الشهور القليلة الأخيرة، تجعلنا نتكهن باحتمال «إقالة» أو «استقالة» رئيس الحكومة الروسية دميتري ميدفيديف، حيث نلاحظ محاولات من قبل الكرملين لوضع ميدفيديف في أوضاع «حرجة»، تعتبر مقدمات لإعداد الرأي العام لخلعه من منصبه. فقد وصلت هذه المحاولات ذروتها بعد مقابلة تلفزيونية، أجراها ميدفيديف مع خمس قنوات تلفزيون روسية في السابع من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ووصف فيها أجهزة الأمن الروسية وحفظ النظام بـ«التيوس»، بسبب قيامهم بتفتيش منزل مُخرج تلفزيوني، شارك في إعداد فيلم عن المعارضة الروسية لفلاديمير بوتين. ومع أن هذا الوصف لم يكن في البث المباشر، حيث قاله ميدفيديف بعد انتهاء هذا البث خلف الكواليس، إلا أن هذا التصريح بُث على قناة «روسيا اليوم»، التابعة للكرملين مباشرة، وانتشر منها إلى «اليوتيوب».

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل سارع الناطق الرسمي للجنة التحقيق التابعة للنائب العام في روسيا، فلاديمير ماركين، إلى التعبير العلني عبر وسائل الإعلام الروسية عن انتقاده لتصريح ميدفيديف، مشيراً إلى أنه «يُهدر سمعة أجهزة حفظ النظام أمام المواطنين، ويُهين رجال الأمن». وذلك في سابقة تحدث لأول مرة في روسيا من قبل موظف حكومي أقل في الدرجة الوظيفية من رئيس الحكومة. ولأن لجنة التحقيق المذكورة تلتصق بقوة بالرئيس الروسي، يمكن افتراض أن الكرملين يقف وراء استغلال ما قاله ميدفيديف في حق أجهزة الأمن، الذي يتضمن بعض ملامح الخلافات المكبوتة داخل الطبقة الضيقة الحاكمة في روسيا. كما أن ميدفيديف في مقابلته التلفزيونية، المشار إليها، دافع عن وزير الدفاع الروسي اناتولي سيرديوكوف، الذي أقاله بوتين مؤخراً بسبب شبهات فساد في وزارة الدفاع. وفي هذا الصدد، قال ميدفيديف «إن سيرديوكوف غير متورط في الفساد، ولم يُسجن أو يُحقق معه لهذا السبب تحديداً». ويبدو أن هذا التصريح أدى إلى امتعاض الكرملين أيضاً. علاوة على ذلك، فإن ميدفيدف صرح أكثر من مرة بعد عودة بوتين إلى عرش الكرملين في مارس 2012 بأنه لا يستبعد أن يعود إلى منصب الرئاسة عبر الانتخابات القادمة في العام 2018.

وفي وقت سابق طالب ميدفيديف بإطلاق سراح الفتيات الثلاث، أعضاء فرقة «بوسي رايت»، المحكومات بعامي سجن بسبب اقتحام كنيسة «المسيح المخلص» في قلب موسكو، وغناء أغنية داخل هذه الكنيسة، تتمنى على السيد «المسيح» تخليص روسيا من بوتين. الأمر الذي دفع دميتري بيسكوف، الناطق الرسمي للرئيس بوتين، إلى التصريح «بأن ميدفيديف يعبر عن رأيه الشخصي في هذه القضية».

واللافت أيضاً أن بوتين استهل فترة ولايته الثالثة بسحب ما كان أقدم عليه ميدفيديف من بعض التنازلات السياسية تحت ضغط مظاهرات المعارضة في نهاية العام الماضي، واستبدالها بقوانين أكثر تشدداً أقرها مجلس الدوما لتنظيم عملية التظاهر، وتقييد نشاط وتمويل منظمات المجتمع المدني، وفرض الرقابة على «الإنترنت» ومواقع التواصل الاجتماعي. وفي إطار «الخلافات المكتومة» بين الثنائي الروسي، يمكن الإشارة أيضاً إلى قرار بوتين برفع سن التقاعد حتى السبعين بالنسبة لكبار قيادات الدولة، بعد ان كان ميدفيديف قد هبط به إلى سن الستين بدلاً من خمسة وستين.

وكان بوتين طلب أيضاً موافقة الدوما على مشروع قانون تشديد العقوبة على جرائم الخيانة العظمى، وقد اقر مجلس الدوما مؤخراً هذا القانون، الذي يقضى بتوسيع مفهوم الخيانة العظمى وصلاحيات جهاز الأمن الفيدرالي في روسيا، ورفع عقوبة السجن من 12 إلى عشرين عاماً على كل من تثبت إدانته في قضايا تتعلق بتقديم أية معلومات إلى هيئات أجنبية ودولية. كما يجرم القانون المذكور بالسجن لمدة ثماني سنوات مجرد جمع المعلومات السرية، حتى وإن لم يتم نقلها أو تسليمها للغير. ويرى حقوقيون روس أن مثل هذا الطرح يجعل من تجميع المعلومات حول تزوير الانتخابات، على سبيل المثال، إفشاءً لأسرار الدولة وخيانة عظمى. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن المنظمات الحقوقية الروسية، والتيارات المعارضة في روسيا تشعر بقلق عميق من جراء هذا القانون، الذي يخلق أجواء جديدة، تُشجع أجهزة الأمن على السعي للحصول على صلاحيات أوسع تحت ذريعة البحث عن «الخصوم وأعداء الوطن»، وبدعم واضح من زعيم الكرملين، الذي يعتمد على «الولاء» التام لهذه الأجهزة.

إن كل المؤشرات، التي ذكرناها أعلاه، تمثل بدرجة معتبرة، دليلا على احتمال قرب رحيل ميدفيديف. وتمثل أيضاً، في رأينا، «الصراع» الناعم والخفي، ولعبة التوازنات داخل أعضاء الفريق الحاكم في روسيا. فلا يمكن إغفال تعيين زعيم الكرملين لسيرغي ايفانوف رئيساً لديوان الكرملين، وهو الذي كان منافساً لميدفيديف في سباق الفوز بأحقية خلافة بوتين في العام 2008. كما لا يمكن تجاهل التكهنات الحالية بعودة ألكسي كودرين، وزير المالية السابق، إلى صفوف الفريق الحاكم، وهو الذي انتقد ميدفيديف بشدة في نهاية العام الماضي، ورفض العمل في حكومته، التي تشكلت بعد فوز فلاديمير بوتين بالولاية الرئاسية الثالثة. ويمكن القول إنه منذ عودة بوتين إلى الكرملين، والحديث لا ينقطع بشأن احتمالات تخليه عن «رفيق دربه» دميتري ميدفيديف، وقرب انتهاء «شهر العسل» بين ما يسمى بـ«الثنائي الحاكم» في روسيا.

كاتب وصحافي مصري مقيم في موسكو

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *