السودان وحرب اسرائيل غير المعلنة على ايران
لم يكن قصف مصنع اليرموك في السودان الاول من نوعه، فقد وجهت الاتهامات إلى اسرائيل في خمسة اعتداءات مماثلة نُفذت بين الأعوام 1998 و2012. لكن الاعتداء الأخير يتخذ ابعادا اضافية وخلفيات متعددة، بدءا بموقع السودان الاستراتيجي وارتباطه بأزمات المنطقة، وانتهاءً بالنوايا الاسرائيلية المبيتة تجاه العديد من دول المنطقة عربية كانت ام غير عربية.
وعلى الرغم من سياسة الغموض التي تتبعها اسرائيل في مثل هذه الحالات، فكل الدلائل تشير إلى الأصابع الاسرائيلية في تنفيذ تلك العملية. وفي قراءة بسيطة للمواقف السياسية والصحفية الاسرائيلية تؤكد الاهتمام الذي توليه تل ابيب وواشنطن للسودان بكونه يشكل العمق الاستراتيجي العربي وموقعه في القرن الافريقي الذي يشكل امتدادا حيويا للقنوات البحرية في الشرق الأوسط ومن بينها باب المندب جنوب البحر الأحمر ومضيق هرمز في الخليج العربي.
وفي هذا السياق من الصعب فصل الاهتمام الاسرائيلي الاميركي بموقع السودان وسياساته وتحالفاته الاقليمية لا سيما مع ايران. فمنذ اربع سنوات وقعت الخرطوم وطهران اتفاقات ذات طابع استراتيجي بمختلف المجالات، ويأتي قصف المصنع العسكري في سياق الحرب الاستخبارية غير المعلنة بين تل ابيب وطهران، اذ تدعي اسرائيل ان هذا المصنع بالتحديد هو الجهة المؤسسة لصناعات الصواريخ التي تزود بها المقاومة في غزة ولبنان بعد عدواني 2006 على لبنان 2008 على غزة.
وفي التحليل الأبعد، ثمة رابط جيو استراتيجي بين هذه العملية وما يمكن ان يُنفذ من عمليات مستقبلا على طهران.ففي الوقائع، ان موقع مصنع اليرموك هو بنفس المسافة التي يمكن للطائرات الاسرائيلية ان تقطعها للوصول إلى الاراضي الايرانية لتنفيذ ضرباتها ضد المنشآت النووية، وبالتالي يمكن ان يعتبر هذا الاعتداء بمثابة التجربة الميدانية العملية لأي خطة عسكرية خاطفة يمكن ان تشن في العام القادم كما تشير العديد من مراكز الدراسات الامنية والعسكرية ودوائر القرار الاسرائيلية والأميركية. وما يعزز هذه المؤشرات القدرة الاسرائيلية على تنفيذ مثل تلك العمليات وثمة سوابق في هذا المجال حينما قطعت طائراتها مسافة 1500 كيلومترا للوصول إلى مقرات قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس في ثمانينيات القرن الماضي، علاوة على العمليات الأخرى المتهمة بها ومن بينها اختطاف عبدالله اوجلان في عميلة امنية عسكرية نفذت في عينتيبي في الفترة نفسها من القرن الماضي أيضا.
ان التدقيق في بعض المواقف الاسرائيلية والأميركية، تؤكد ان ثمة خطوطا حمر من الصعب على تل ابيب وواشنطن السماح بتجاوزها بما يختص بالدور والسياسات التي تلعبها الخرطوم حاليا، بخاصة اذا ربطت المواضيع بمسائل حيوية أخرى كالنفط مثلا، فالسيطرة على القرن الافريقي بساحله يشكلا مكمنا قاتلا لممرات النفط في حال سيطرت ايران بشكل ما على مضيق هرمز، وبالتالي ان ضبط وضع السودان أمر حيوي للسياسات الاميركية والإسرائيلية في المنطقة، سيما وان ثمة الكثير من الوقائع التي تثبت هذه التوجهات قديما وحديثا وآخرها ما حدث من انفصال السودان، وما يشكل من خاصرة رخوة لمجمل الدول العربية في القارة الافريقية.
يعود موقع السودان في العقل الامني والاستخباري الاسرائيلي إلى ستينيات القرن الماضي، حيث يروي الجنرال السوداني الجنوبي جوزف لافو، علاقته بإسرائيل إلى العام 1968 حيث بعث برسالة تهنئة إلى رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك ليفي أشكول يهنئه فيها بالنصر الذي حققته اسرائيل في حرب 1967، ويشير إلى خليفته غولدا مائير أنها هي التي تلقفت الخطوة وعملت على التواصل معه، إلى ان وصلت العلاقات الاسرائيلية مع الجنوب إلى اوجها لاحقا مع سليفا كير التي زودت قواته بالعتاد في معركة هجليج اواخر العام 2011.
ثمة الكثير من علامات الاستفهام التي ترسم حول توقيت وتنفيذ العملية ضد مصنع اليرموك، بدلالاته وإبعاده التكتيكية والإستراتيجية، وبصرف النظر طاقة المصنع وفعاليته وقدراته، ثمة أشياء ومسائل أخرى ينبغي أخذها بالاعتبار والحسبان، فهل كانت العملية بمثابة بروفا يمكن استنساخها مستقبلا ضد أهداف اقليمية ومنها إيرانية؟ أو ضد أهداف لها علاقة أيضا باستفزازات مهينة وقاسية وجهت ضد اسرائيل سابقا ومنها طائرة أيوب الاستطلاعية؟ جميعها مؤشرات من الصعب اغفالها أو غض الطرف عنها.