اليابان والتحول القومي
نجح مجتمع اليابان في تجديد نفسه مرتين في أقل من 200 عام- في القرن التاسع عشر أثناء فترة تجديد ميجي، ثم بعد الهزيمة في عام 1945. والواقع أن بعض المحللين تمنوا أن تكون كوارث العام الماضي (الزلزال والتسونامي والكارثة النووية) سبباً في إشعال شرارة محاولة ثالثة للتجديد الوطني، ولكن هذا لم يحدث حتى الآن.
احتلت اليابان العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام أخيراً، بسبب نزاعها مع الصين حول جزر قاحلة لا تتجاوز مساحتها ستة كيلومترات مربعة في بحر الصين الشرقي، والتي تسميها اليابان جزر سينكاكو في حين تسميها الصين جزر دياويو. وترجع هذه المطالبات المتنافسة إلى أواخر القرن التاسع عشر، ولكن اشتعالها أخيراً، والذي أدى إلى اندلاع تظاهرات حاشدة مناهضة لليابان، بدأ في سبتمبر عندما اشترت حكومة اليابان ثلاثاً من هذه الجزر الضئيلة من مالكيها اليابانيين.
وأعلن رئيس الوزراء يوشيهيكو نودا أنه قرر شراء الجزر لمصلحة الحكومة المركزية لمنع محافظ طوكيو شينتارو إيشيهارا من شرائها بأموال تابعة للمجلس المحلي. ومن المعروف عن إيشيهيرا، الذي استقال من منصبه منذ ذلك الوقت لتأسيس حزب سياسي جديد، استفزازاته القومية، ولقد خشي نودا أن يحاول إيشيهارا احتلال الجزر أو البحث عن سبل أخرى لاستخدام الجزر كأداة لاستفزاز الصين وكسب التأييد الشعبي في اليابان. ولكن كبار المسؤولين الصينيين لم يقبلوا مبررات نودا، وفسروا شراء الجزر باعتباره دليلاً يؤكد أن اليابان تحاول تعكير صفو الوضع الراهن.
في شهر مايو 1972، عندما أعادت الولايات المتحدة جزيرة أوكيناوا إلى اليابان، اشتمل نقل السلطة على جزر سينكاكو، التي كانت الولايات المتحدة تديرها من أوكيناوا. وبعد بضعة أشهر، عندما بدأت الصين واليابان في تطبيع العلاقات بينهما بعد الحرب العالمية الثانية، سأل رئيس الوزراء الياباني كاكوي تاناكا نظيره الصيني تشو إن لاي عن جزر سينكاكو، فقيل له إن القضية لابد أن تترك للأجيال القادمة بدلاً من السماح للنزاع بتعطيل عملية التطبيع.
وعلى هذا فقد حافظ كل من البلدين على مطالبته بالسيادة على الجزر. ورغم أن اليابان كانت تسيطر عليها إدارياً، فإن السفن الصينية كانت تدخل إلى المياه اليابانية بشكل منتظم لتأكيد وضعها القانوني. وبالنسبة للصين فإن هذا هو الوضع الراهن الذي أزعجته اليابان في سبتمبر. وفي بكين، أخبرني أحد المحللين الصينيين أخيراً أنهم يعتقدون أن اليابان تدخل الآن فترة من القومية اليمينية المعسكرة، وأن شراء الجزر كان محاولة متعمدة لتقويض تسوية ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن الخطاب الصيني كان حاداً، فمن المؤكد أن تحولاً في المزاج الياباني باتجاه اليمين قد بدأ بالفعل، ولو أنه من الصعب أن نطلق عليه وصف العسكري. أخيراً، شاركت مجموعة كبيرة من الطلاب في جامعة واسيدا في استطلاع حول موقفهم من المؤسسة العسكرية. ورغم أن عدداً كبيراً منهم أعرب عن رغبته في أن تشرع اليابان في تحسين قدراتها في الدفاع عن نفسها، فإن الغالبية الساحقة منهم رفضوا فكرة إنتاج الأسلحة النووية وأيدوا الاستمرار في الاعتماد على المعاهدة الأمنية بين الولايات المتحدة واليابان. وكما أخبرني أحد المهنيين الشباب هناك: “نحن مهتمون بالقومية المحافظة، وليس القومية العسكرية. ولا أحد يرغب في العودة إلى ثلاثينيات القرن العشرين”.
وبطبيعة الحال، بوسعنا أن نؤكد أن قوات الدفاع عن النفس اليابانية مهنية وتحت السيطرة المدنية الكاملة.
في المستقبل القريب ستشهد اليابان انتخابات برلمانية (في أغسطس 2013)، ولكن ربما تجرى الانتخابات مع بداية العام. ووفقاً لاستطلاعات الرأي العام فإن الحزب الديمقراطي الياباني الحاكم، الذي جاء إلى السلطة في عام 2009، من المرجح أن يحل محله الحزب الديمقراطي الليبرالي، الذي سيصبح رئيسه شينزو آبي رئيساً للوزراء- وهو المنصب الذي شغله من قبل.
وآبي معروف بأنه سياسي قومي، وأخيراً قام بزيارة ضريح ياسوكوني، النصب التذكاري المقام في طوكيو لتخليد ذكرى الحرب، والذي يثير الجدال في الصين وكوريا. وعلاوة على ذلك، قام تارو هاشيموتو، محافظ مدينة أوساكا الشاب، وهي ثاني أكبر مدينة في اليابان، بتأسيس حزب جديد، وهو أيضاً مشهور بميوله القومية.
ويبدو أن السياسة اليابانية بدأت تُظهِر العلامات التي خلفها عليها عقدان من النمو الاقتصادي المنخفض، والذي أدى إلى مشاكل مالية ضخمة فضلاً عن تعزيز الموقف المنغلق على الذات بين اليابانيين الأحدث سناً. فمنذ عام 2000، هبط معدل التحاق الطلاب اليابانيين الجامعيين بالجامعات الأميركية بنسبة تتجاوز 50%.
قبل ثلاثين عاماً، نشر عزرا فوغل الأستاذ بجامعة هارفارد كتاب بعنوان “اليابان رقم واحد: دروس من أجل أميركا”، وهو الكتاب الذي احتفل بنهضة اليابان التي قامت على التصنيع لكي تصبح الدولة صاحبة ثاني أضخم اقتصاد على مستوى العالم. وأخيراً وصف فوغل النظام السياسي في اليابان بأنه “فوضى مطلقة”، حيث يستبدل رؤساء الوزراء كل عام تقريباً، وحيث استنزفت توقعات الجيل الأحدث سناً بفعل سنوات من الانكماش. كما أعرب يوشي فوناباشي، رئيس تحرير صحيفة “أساهي شيمبون” سابقاً، عن انزعاجه الشديد: “الشعور السائد في اليابان الآن هو أننا غير مستعدين للاضطلاع بدور اللاعب العالمي القوي القادر على المنافسة في هذا العالم”.
ولكن على الرغم من هذه المشاكل فإن اليابان لا تزال تتمتع بأسباب قوة ملحوظة. فبرغم اجتياز الصين لليابان باعتبارها الدولة صاحبة ثاني أضخم اقتصاد على مستوى العالم قبل عامين، فإن المجتمع الياباني يعيش في رخاء ورغد، حيث نصيب الفرد في الدخل أعلى كثيراً. واليابان تتمتع بجامعات مثيرة للإعجاب، ومستويات تعليمية عالية، وشركات عالمية جيدة الإدارة، وأخلاقيات عمل قوية. إنه مجتمع نجح في تجديد نفسه مرتين في أقل من 200 عام- في القرن التاسع عشر أثناء فترة تجديد ميجي، ثم بعد الهزيمة في عام 1945. والواقع أن بعض المحللين تمنوا أن تكون كوارث العام الماضي (الزلزال والتسونامي والكارثة النووية) سبباً في إشعال شرارة محاولة ثالثة للتجديد الوطني، ولكن هذا لم يحدث حتى الآن.
قال لي العديد من الشباب اليابانيين إنهم “سئموا” الركود والانجراف مع التيار. وعندما سُئل بعض الأعضاء الشباب في البرلمان عن الاتجاه اليميني في السياسة، قالوا إنهم كانوا يتمنون لو يؤدي هذا الميل إلى إنتاج عملية إعادة ترتيب بين الأحزاب السياسية على نحو قد يقود إلى حكومة وطنية أكثر استقراراً وفعالية. فإذا تم تسخير الحس القومي المعتدل لمصلحة عملية الإصلاح السياسي، فإن النتائج قد تكون جيدة بالنسبة لليابان- وبالنسبة لبقية العالم.
ولكن إذا أدى المزاج القومي المتزايد الحدة في اليابان إلى تبني مواقف رمزية وشعبوية لا قيمة لها إلا كسب الأصوات في الداخل، ولكنها في الوقت نفسه كفيلة باستعداء الجيران، فإن حال اليابان والعالم ستصبح أسوأ كثيراً. ومن المؤكد أن ما ستفرزه السياسة في اليابان على مدى الأشهر المقبلة سيمتد إلى ما هو أبعد من شواطئها.
* أستاذ بجامعة هارفارد ومؤلف كتاب «مستقبل القوة».
«بروجيكت سنديكيت
»