بين حكم الميليشيات والإقطاعيات وخطر الحرب الأهلية
على الرغم من انقضاء عام على سقوط نظام العقيد معمر القذافي، وإجراء انتخابات نيابية في يوليو الماضي، فان كل المعطيات والوقائع تؤشر الى أن ليبيا لا تسير نحو تحقيق الأمن والاستقرار واعادة بناء الدولة، وإنما تؤكد انها لا تزال على مسافة بعيدة جدا عن تحقيق هذا الحلم لليبيين، الذين باتوا هذه الأيام يعيشون في حالة من الاضطراب وانعدام الأمن والأمان تجعلهم يترحمون على ايام القذافي، حيث اصبحت البلاد تتأرجح بين حكم الميليشيات المسلحة التي باتت تسيطر على الأرض تفرض قوانينها وتنشرالفوضى والفلتان الأمني، وتتصارع فيما بينها على السلطة والنفوذ، وبين خطر الانزلاق إلى أتون الحرب الأهلية المدمرة التي يغذيها استحضار الثأرات وإثارة العداوات القبلية والعشائرية والجهوية القديمة.
ولذلك فان الاعتقاد الذي ساد لدى البعض بان الشعب الليبي سوف ينعم بالحرية والديمقراطية، فور سقوط القذافي، وستقام دولة العدالة والمساواة، كان اعتقادا واهما، فالمراقب للاوضاع يلحظ بأنه رغم اجراء الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة الا أن أيا من هذه الأمنيات لم تتحقق، وان الأمور تسير من سيئ الى أسوأ.
إن هذا التوصيف للواقع السائد في ليبيا ينطلق من قراءة لما يجري من احداث وتطورات تشهدها البلاد من أقصاها الى أقصاها، وتجسدت بالآتي:
أولاً: احتدام الصراع القبلي بين القبائل المختلفة، والذي تمثل مؤخراً في المعركة التي حصلت في مدينة بني وليد، وأسفرت عن اقتحام ميليشيات مصراتة للمدينة، وسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، بعد محاصرتها لمدة أسبوعين وقصفها بالصواريخ والمدفعية، في مشهد أعاد إلى الأذهان ما كان يقوم به نظام القذافي ضد القبائل المعارضة لسلطته.
وبدا واضحاً أن ميليشيات مصراتة ارادت بذلك الثأر من قبائل بني وليد لأنهم ناصروا القذافي وأقدموا على احتجاز وقتل عمران شعبان (من مصراتة) الذي قيل أنه عثر على القذافي مختبئا في سرت، ويكشف ذلك حجم التوتر بين بني وليد ومصراتة، التي أمضت اسابيع تحت الحصار والقصف من قبل قوات القذافي أثناء الحرب العام الماضي، في وقت كانت بني وليد واحدة من آخر المدن التي بقيت على تأييدها للقذافي، ولهذا أخذ القتال في بني وليد بعدا قبليا ثأريا، على أن ذلك أماط اللثام عن الصراعات التاريخية القبلية بين المدينتين، والتي تعود إلى عهد الاستعمار الايطالي الذي لعب دورا اساسيا في اثارة هذه الصراعات وتغذيتها لتمزيق وحدة الشعب الليبي وتقويض مقاومته المسلحة ضد قواته المحتلة.
ثانياً: انتشار الفوضى والانفلات الأمني والاعتداء على أرزاق وممتلكات المواطنين، وتفجر الثأرات القبلية في كل المناطق وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والمترافقة مع ازدياد نسبة الفساد في مؤسسات الدولة وسرقة المليارات، ما دفع البعض إلى الحديث عن اقتراب اللحظة التي يترحم فيها الناس على عهد القذافي.
وتحولت الميليشيات المسلحة إلى سلطة أمر واقع بديلا عن سلطة الدولة، تفرض قوانينها وسلطانها، وهو ما تجسد مؤخراً في الآتي:
1ـ اقتحام عشرات المتظاهرين قاعة المؤتمر الوطني الليبي (البرلمان) احتجاجاً على تشكيلة الحكومة التي اقترحها رئيس الوزراء المكلف علي زيدان، في حين كان النواب يستعدون للتصويت على الثقة بها.
وقال شاهد عيان لوكالة «رويترز» إن المحتجين (الذين ينتمون لبعض الميليشيات المسلحة) قالوا إنهم غير راضين عن بعض الوزراء، وتعهدوا بالاعتصام إلى غاية استبعاد الوزراء المكلفين بحقائب الخارجية والأوقاف والصحة والزراعة والعدل والداخلية.
وقد ادى هذا الضغط الى اقدام وزير رعاية أسر الشهداء والمفقودين سامي الساعدي على تقديم استقالته من الحكومة الجديدة.وقال الساعدي -الذي يترأس حزب الأمة الوسط- إن استقالته جاءت احتجاجا على تشكيلة الحكومة الجديدة التي أثارت الكثير من الجدل والاحتجاج في ليبيا حول عدد من الحقائب التي مُنحت لوزراء محسوبين على النظام السابق، على حد قوله. وأضاف «الحكومة لم يُمثل فيها الثوار فقررت الانسحاب منها والاستقالة».
وكان رئيس الوزراء علي زيدان قد أكد أنه سيحاول استيعاب مطالب «الثوار»، قائلا إن الحكومة ستكون ‹مع «الثوار وبالثوار»›، ودافع زيدان عن خيار الاعتماد على المستقلين في الوزارات السيادية، ذلك «أننا أمام استحقاق وطني وليس حزبيا».
2ـ استمرار الاشتباكات المسلحة بين الميليشيات المتنافسة وعمليات النهب، حيث قام مسلحون مؤخراً باضرام النار في مقر أمني وسط العاصمة طرابلس ونهبوا محتوياته، وذلك في وقت أوقعت فيه اشتباكات بين ميليشيات أخرى متنافسة بالعاصمة خمس إصابات، في حين نهب مسلحون موالون للحكومة أيضا متاجر في منطقة شارع الزاوية، حيث تناثرت البضائع والحطام، بينما تسبب انفجار سيارة مفخخة بإصابة ثلاثة أفراد من الشرطة في بنغازي، التي شهدت العديد من التفجيرات والهجمات هذا العام ضد قوافل دولية ومبان رسمية، وأدى احداها الى مقتل سفير الولايات المتحدة في سبتمبر الماضي.
وفي أوائل الشهر نفسه قتل ضابط مخابرات ليبي وأصيب آخر عندما انفجرت سيارتهما لدى توقفهما لشراء سجائر بمنطقة تجارية مزدحمة ما دفع بريطانيا الى إغلاق قنصليتها في المدينة.
وبسبب استفحال حالة الفوضى والفلتان الأمني خرج أهالي مدينة بنغازي، التي انتفضت ضد حكم القذافي، عن صمتهم واعلنوا عدم قدرتهم على تحمل استمرار حكم الميليشيات، وقاموا بتنظيم تظاهرة تحت عنوان «جمعة بنغازي» طالبت بحل هذه الميليشيات غير الخاضعة لسلطة الدولة.
ثالثاً: بدء الحديث عن طغاة جدد حلوا في الحكم مكان القذافي الذي استأثر بالسلطة لعقود، في ظل غياب لغة الحوار، وعدم القبول بالآخر، وانتشار ثقافة التخوين والاتهام بين الإطراف السياسية، ما يشير إلى رفض تجاوز الماضي، وعدم التجاوب مع الدعوات لمصالحة وطنية تضع حداً للصراعات القبلية والجهوية والسياسية، توفر بيئة مواتية لاطلاق حوار وطني يقود إلى وضع دستور جديد، والتسليم بمبدأ تداول السلطة عبر الانتخابات، وبالتالي التخلي عن سياسة الاستئثار بالسلطة وتهميش الآخرين.
رابعاً: الإقرار من قبل الأحزاب والحكام الجدد بالفشل في إعادة بناء مؤسسات الدولة المركزية، وان اختلفوا في تحديد المسؤولية عن ذلك.
ففي حين تحدث عبد الفتاح البشتي القيادي في حزب «الليبيين الأحرار» عن غموض الأوضاع متهما أطرافا إقليمية وعربية ومحلية بدور كبير في العمل على تأجيج الفوضى بليبيا، ووجود إرادات لا تريد بناء الجيش وأجهزة الدولة ، وأن ليبيا لم تتحرر بعد لأنها تشهد يوميا أعمال قتل وخطف واغتيالات وفوضى. أعاد رئيس المؤتمر الوطني محمد المقريف ذلك إلى « التراخي والإهمال في استكمال التحرير»، وبناء « القوات المسلحة والأجهزة الأمنية»، وعدم « الإسراع في السيطرة على السلاح المنتشر في كل مكان»، وعدم « استيعاب الثوار في شتى مرافق الدولة والاهتمام بشؤونهم» .. الخ .
ويبدو من الواضح أن هذه التطورات التي تؤشر إلى استفحال الفوضى، والصراعات على اختلافها، وفقدان الأمن، والتي تهدد بانزلاق البلاد إلى أتون الحرب الأهلية القبلية على الطريقة الصومالية، قد أدت إلى مزيد من الاحتقان ولجوء الناس إلى السلاح للدفاع عن أنفسهم بعد انتشار ظواهر التمرد على القوانين، وعمليات الخطف والاعتقال القسري والتعذيب في السجون الخاصة التابعة للميليشيات والابتزاز والنهب، وقد أفسحت هذه الفوضى في المجال أمام انتعاش دعوات الفيدرالية واحتدام واستحضار الصراعات والثأرات القبلية القديمة، منذ عصر الاستعمار الايطالي الذي عمد إلى تغذيتها، ومروراً بالصراع على السلطة بين القذافي والقبائل المناصرة له، وبين القبائل التي تمردت عليه بدعم من الناتو، وانتهاء بالصراع المسلح بين مصراتة، وبني وليد .
على أن السيطرة على بني وليد لا تعني أن الصراع قد انتهى، بل على العكس فانها ستؤدي إلى تفاقمه وزيادة منسوب العداء والصراع القبلي، وستثير حفيظة قبائل أخرى في الغرب والجنوب ما يؤجج نار العداوة ويزيد من الفوضى ويسرع من انزلاق البلاد إلى أتون الحرب الأهلية ذات البعد القبلي، والتي بدأت مؤشراتها في بني وليد، ويدفع إليها العوامل الآتية:
العامل الأول: الإخفاق في بناء الدولة المركزية القادرة على تحقيق الاستقلال الوطني، والعدالة الاجتماعية والمساواة، وضبط الأمن والاستقرار ووضع حد لظاهرة الميليشيات المسلحة وتعدد مراكز القرار على الأرض.
العامل الثاني: استمرار سياسة الاستئثار القبلي والاستقطاب الحاد بين القبائل وما يعنيه ذلك من تعميق للصراع القبلي والانقسام وتنامي الدعوات الى الفيدرالية والتقسيم.
العامل الثالث: سياسة دول حلف الناتو التي احتلت ليبيا وتقوم على تغذية الصراعات القبلية والتناقضات بين الليبيين بما يوفر البيئة المواتية لاستمرار شركاتها بعملية النهب المنظم لثروات ليبيا من النفط والغاز.
فسياسة الفوضى الهدامة، ذات الصناعة الاميركية الغربية، هي التي تطبق اليوم في ليبيا، وتدفعها إلى منزلق الحرب الأهلية، لإنهاكها وجعل ثرواتها فريسة ولقمة سائغة تلتهمها شركات دول حلف الناتو.
وقد لخصت صحيفة الغارديان البريطانية الواقع في ليبيا بالقول: ان ليبيا لم تعد دولة واحدة بل مجموعة من الاقطاعيات وبعضها أفضل من الأخرى، وان انتخاب أول برلمان ديمقراطي في البلاد، وأن تمت بنجاح، إلا أنها انتهت الى فشل ذريع، وذلك بسبب الخلافات الايديولوجية والقبلية والمناطقية التي تسيطر على المجلس المنتخب