فوز أوباما يضاعف فرص التصادم مع برلين بسبب أزمة اليورو
عمدت إدارة أوباما في ولايته الأولى إلى توجيه انتقادات لاذعة لمقاربة أوروبا الخجولة في مواجهة أزمة اليورو. من المستبعد أن يتغير الوضع خلال الولاية الثانية. لكن ثمة أمل في أن يعيد البيت الأبيض التركيز على أوروبا من أجل عقد اتفاق تجاري حر عابر لمنطقة الأطلسي.
تشير إعادة انتخاب الرئيس باراك أوباما (ولو بفارق يقل عن عام 2008) إلى تماسكه السياسي، أقله في المستقبل القريب. غالباً ما يركز الحكم خلال الولاية الثانية على ترسيخ السياسات التي تم إقرارها خلال الولاية الأولى، كما أنه يكشف عن مقاربات معتدلة للتعويض عن المبادرات الأولية المشحونة على المستوى الايديولوجي. هذا ما حصل مع رونالد ريغان وبيل كلينتون وجورج بوش الابن. ولن يكون الوضع مختلفاً مع أوباما.
من المتوقع أيضاً أن يواجه أوباما المناخ السياسي نفسه والانقسام المحلي عينه. بالتالي، ستستمر العدائية التي واجهها منذ نشوء ظاهرة حزب الشاي خلال الانتخابات النصفية في عام 2010. كذلك، تعني عودة مجلس النواب بغالبية جمهورية أن المكاسب المحلية والخارجية ستكون عاملاً حاسماً وسترتكز على أوامر تنفيذية وتنظيمات وتفسيرات للتشريعات القائمة بدل أن تكون نتاج مبادرات تشريعية جريئة وجديدة.
كان “التوازن” الكلمة الجوهرية التي تمحورت حولها حملة أوباما لعام 2012. تحدث الرئيس خلال مناظراته مع الحاكم ميت رومني عن مقاربة متوازنة لحكم البلاد. سينطبق هذا المبدأ حتماً على سياسته الاقتصادية المحلية التي تعكس مجموعة تعديلات تطاول النفقات والعائدات والتي يعتبرها أوباما عوامل مهمة لمعالجة الأزمة المالية الأميركية والنمو الاقتصادي الضعيف، لكن ذلك المبدأ سينطبق أيضاً على مقاربته الدولية، ولا سيما في تعامله مع أوروبا.
ستبقى مواقف الرئيس أوباما المتوازنة في تصادم دائم مع مواقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حول طريقة إدارة أزمة منطقة اليورو. بالنسبة إلى الديمقراطيين، طبّقت أوروبا سياسة صارمة وعقيمة تقضي بتخفيض الإنفاق بشكل مفرط في جنوب منطقة اليورو. أدت تلك المقاربة إلى مشاكل اقتصادية واضطرابات سياسية وأصبح النمو صعباً على المدى القريب. وفق هذا الرأي، يبدو أن التنظيم المؤسساتي الراهن داخل منطقة اليورو يحرم الحكومات في اليونان وإسبانيا وإيطاليا من الأدوات السياسية اللازمة لتحريك عجلة الاقتصاد ويحول دون معالجة مشكلة البطالة، وبالتالي إعادة إحياء النمو. يعتبر هذا الموقف أن أزمة اليورو تثبت صحة “برنامج إغاثة الأصول المضطربة”، وقانون إعادة الإعمار والانتعاش الأميركي لعام 2009، واختبارات الإجهاد المصرفي اللاحقة، وتكثيف مراقبة البنوك. يعتبر فريق أوباما أن الاضطرابات الأوروبية المزمنة تشير إلى أن السياسات الحكومية، ولا سيما الخطوات المبنية على حجم الطلب وفرص العمل، هي عامل أساسي لمنع نشوء حلقة مفرغة تمهد لتدهور الميزانية العامة بسبب تقليص القواعد الضريبية وتخفيض الإنتاجية الاقتصادية وتعزيز ظاهرة هروب رؤوس الأموال.
ينص برنامج الحزب الديمقراطي على أن “تتابع الولايات المتحدة في عهد أوباما التواصل مع الحلفاء الأوروبيين لمناقشة أفضل الممارسات ومشاركة الدروس القيّمة انطلاقاً من تجاربنا الخاصة لتجنب الانهيار الاقتصادي، ما يساعدهم على تطبيق أفضل مقاربة للمضي قدماً”. يعني ذلك أن إدارة أوباما خلال الولاية الثانية تريد المشاركة في التفاوض وتنوي تطبيق مقاربة تشمل سياسات تتأثر بفرص العمل وحجم الطلب، ولا سيما في ما يخص فئة الشباب وسكان دول منطقة اليورو الجنوبية. قد تتوقع ألمانيا من الرئيس أوباما أن يخصص جزءاً من رصيده السياسي في أوروبا (نظراً إلى شعبيته الكبيرة في هذه القارة) من أجل إقناع الرأي العام بضرورة تعميق التكامل والتوسع المالي المنظم.
اتفاق تجاري حر محتمل
مقابل السياسة التي يطرحها أوباما لمعالجة أزمة اليورو، سترحب برلين بالتزام الرئيس المتجدد بتحسين التجارة العابرة للأطلسي وباهتمامه المستمر بمسألة التغيير المناخي. هذه هي المكافآت التي سيقدمها أوباما في ولايته الثانية. لطالما كانت التجارة العابرة للأطلسي أولوية بالنسبة إلى دار المستشارية الألمانية، فقد كان هذا الاتفاق التجاري محور خطابات ميركل في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في عام 2011 وفي اجتماع جمعية “الجسر الأطلسي” في يوليو 2012. كان فريق أوباما التجاري يعمل بكل هدوء على طرح تفاصيل اتفاق تجاري حر عابر للأطلسي، ومن المتوقع أن يركز على إقراره في عام 2013. لا شك أن الكونغرس سيكون ورقة الحسم في هذا المجال. صحيح أن بعض الجمهوريين يوافقون على منافع أي اتفاق من شأنه أن يزيل الحواجز التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن رغبتهم في منع أوباما من تحقيق “مكاسب” سياسية متلاحقة قد تمنعهم من السماح للإدارة بإجراء مفاوضات واسعة لعقد تلك المعاهدة.
يلتزم فريق أوباما أيضاً بتطبيق سياسات تهدف إلى تخفيف ظاهرة التغيير المناخي بطريقة حاسمة لكن غير مباشرة. تشمل هذه المقاربة إقرار تنظيمات وبرامج مثل التمويل التجاري والائتمانات الضريبية التي سمحت بنشوء صناعات حكومية مثل مصانع توربينات الرياح في أيوا وتطوير تكنولوجيا الشبكة الذكية في فرجينيا.
من المتوقع أن تستمر بعض السياسات الدفاعية والأمنية خلال ولاية أوباما الثانية. سيبقى حلف الأطلسي تحالفاً متماسكاً، لكن سترتكز عملياته على شراكات براغماتية تستند إلى الأرصدة التي تستطيع الدول الأعضاء تقديمها. على صعيد آخر، ستستمر نزعة التوجه نحو آسيا التي بدأت في عهد جورج بوش الابن وقد تتسارع وتيرتها كونها ستصبح جزءاً محورياً من إرث أوباما؛ سيكون أوباما أول رئيس يركز على منطقة المحيط الهادئ. لقد ترسخت مشاعر التعب من عمليات التدخل في الولايات المتحدة بعد الصراعات المطوّلة في العراق وأفغانستان. كذلك، تسربت مشاعر التعب من الحرب إلى الحزبين رغم محاولات التمييز بين الحملات العسكرية المختلفة، وسيبقى أوباما متردداً في الالتزام بعمليات عسكرية خارجية. كما أنه سيصر على تكثيف العمليات عبر استعمال الطائرات بلا طيار في باكستان واليمن كأداة لمكافحة الإرهاب. بعد حشد دعم نسبة واسعة من الناخبين الأميركيين (62%)، من المتوقع أن تبقى هذه العمليات جزءاً أساسياً من سياسة مكافحة الإرهاب الأميركية.
سيتابع أوباما مقاربته تجاه أوروبا من دون المبالغة في التعاطف معها، كما كان الوضع سابقاً بين الفريقين. لكن سيزيد التزامه مع تلك القارة حتماً. ستكون ألمانيا أبرز شريكة له من باب الضرورة. لكن لم يتضح بعد ما إذا كانت ستختار تلك الشراكة طوعاً.
* مدير العلاقات العابرة للأطلسي في “مؤسسة برتلسمان”، واشنطن.