الصين والحلم الأميركي
التحدي الأساسي الذي يواجه أميركا على المستوى العالمي يتلخص في قبول حقيقة مفادها أنها لم تعد وحدها على القمة. فهي لم تضطر من قبل قط إلى التعامل مع آخرين باعتبارهم مساوين لها، على النقيض من القوى الأوروبية التقليدية، التي فعلت ذلك لقرون عدة من الزمان.
قد تكون الصين على مسافة بضع سنوات فقط من التحول إلى القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وربما تكون مركزية أميركا الاستراتيجية في طريقها إلى الأفول (من المؤكد أنه لا أحد يتحدث عن الولايات المتحدة اليوم بوصفها “القوة العظمى” الوحيدة في العالم). لكن أميركا لاتزال تجعل الناس يحلمون، ولاتزال سيطرتها العاطفية على العالم فريدة من نوعها.
وبهذا المعنى، يكون الأسبوع الماضي قد جلب انتصارين: ليس فقط انتصار باراك أوباما على منافسه الجمهوري ميت رومني في الانتخابات الرئاسية، بل انتصار النظام الديمقراطي الأميركي على استبداد الحزب الواحد في الصين، أيضاً في بضع جمل بسيطة في خطاب النصر، وفي لحظة ساحرة، احتفل أوباما “بسر الديمقراطية” بأسلوب راسخ، لكن أيضاً بطريقة شبه دينية.
لقد وجد أوباما الكلمات المناسبة للثناء على العدد الكبير من المواطنين المجهولين الذين ذهبوا من باب إلى باب لإقناع إخوانهم الأميركيين بالتصويت لمرشحهم المفضل، والواقع أنه كان يصف الديمقراطية في أفضل حالاتها، وبكل نبلها، كما ينبغي لها أن تكون، لكنها ليست كذلك في كل الأحوال: رجال ونساء يتحركون في حرية وقادرون على تغيير مصائرهم.
في هذه اللحظة، رغم قِصَرِها، هزمت قوة أميركا الناعمة الصين بالضربة القاضية، فبعد أقل من يوم واحد افتتحت الصين رسمياً- وعلى نحو شديد الإبهام والغموض- المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني. والواقع ان الملايين من الناس في أنحاء العالم المختلفة يفضلون لو يشهدون بأنفسهم ليلة انتخابات مثل الانتخابات الأميركية على أن يكونوا جزءاً من خطط الصين الطويلة الأجل.
بطبيعة الحال، لم تعد أميركا كما كانت من قبل، فهي مثقلة بالديون إلى الحد الذي لا يسمح لها بأن تعمل بمنزلة وثيقة التأمين الاستراتيجية والاقتصادية المطلقة لحلفائها، كما كانت في الماضي، لكن إذا انحسرت قوة أميركا الواقية فإن قدرتها على الإلهام تظل فريدة من نوعها وقادرة على الارتداد إلى سابق عهدها بأكثر الطرق إثارة.
لم يكن فوز أوباما انتصاراً للديمقراطية فحسب، بل لرؤية محددة ورسالة من أميركا، أيضاً. فبالحفاظ على موقف منفتح من الهجرة، والاستمرار على الخطاب المحترم في التعامل مع كل من يرغب في أن يعيش اختلافه بحرية، وبالنظر إلى المرأة بطريقة عصرية كريمة، تمكن أوباما من حشد قوة الاستثنائية الأميركية، التي تستند إلى كلمة واحدة أساسية: التنوع.
وفي التجاهل المتعمد لهذا التنوع وتبني الحنين إلى ماض ولى منذ زمن بعيد، كان الحزب الجمهوري- الذي ضل بفعل المجانين من غلاة المحافظين المنتمين إليه- أكثر مسؤولية عن الهزيمة من مرشحه اللائق المهذب. وكان خطأ رومني متمثلاً في انحيازه لفترة أطول مما ينبغي لأفكار كانت مفرطة في التطرف بالنسبة له- وبالنسبة لأميركا.
والواقع أن المصير، الذي آلت إليه مساعي رومني للفوز بمنصب الرئيس، يشتمل على رسالة عالمية لكل الأنظمة الديمقراطية: لا أحد يفوز بشيء برعاية الأفكار المتطرفة أو الوقوع أسيراً لها. والواقع أن المرء ليخاطر ليس فقط بخسارة روحه، بل الانتخابات، أيضاً. وكان ذلك مصير نيكولا ساركوزي في فرنسا: فقد هُزِم بعد خسارته الدعم من قِبَل الشريحة المتوسطة من الناخبين. وأعيد انتخاب أوباما لأن الحزب الجمهوري فقد قدرته على رؤية الوسط في أميركا.
بطبيعة الحال، لا ينبغي لعظمة الديمقراطية الأميركية أن تحجب عنا عيوبها العميقة وعجزها الحالي، فقد تجاوزت تكاليف هذه الدورة الانتخابية ملياري دولار، وكل هذا المبلغ لمجرد إعادة إنتاج الوضع الراهن: نفس الرئيس، ونفس توازن القوى في الكونغرس الأميركي. فأصبح المال بمنزلة عامل مساعد في تآكل وإعادة تعريف العملية الديمقراطية، مع تسبب حشد الطاقات الشخصية في إفساح المجال أمام توسيع ميزانيات الحملة الانتخابية.
وبعيداً عن مسألة الأموال، هناك مشكلة نظام من الضوابط والتوازنات يعيث في الأرض فساداً، فيؤدي إلى الشلل الحكومي. ويشكل “حكم الفيتو” (القدرة على استخدام حق النقض لعرقلة القرارات والقوانين)- والذي انعكس في العرقلة الروتينية من جانب الحزب الجمهوري للقوانين أثناء ولاية أوباما الأولى- تهديداً للديمقراطية. لكن هل يدرك الحزب، الذي أخذ العظة من هزيمته الانتخابية، أنه مسؤول أمام الشعب الأميركي، وليس فقط أمام أعضائه وأتباعه؟
إن إعادة انتخاب أوباما تحمل رسالة، لكن هذه الرسالة لن يتردد صداها على نطاق واسع- بما في ذلك في الداخل- إلا إذا لم يبتعد الخطاب عن الواقع، كما كانت الحال في الأغلب الأعم أثناء ولاية أوباما الأولى. إن أميركا لا تستطيع أن تستمر في الحياة في ظل الظلم المتمثل في نظام الرعاية الصحية أو في ظل البنية الأساسية المتداعية العتيقة. ولا يمكنها أن تظل على عدم اكتراثها بالمديونيات المتعاظمة إلى حد غير مقبول والمستحقة على طلابها الجامعيين.
من ناحية أخرى، وفي حين قد لا تكون أميركا الفاعل الدولي القوي كحالها ذات يوم في الماضي، فإن إنتاجها المحلي من الغاز والنفط من الصخر الزيتي من الممكن أن يعيد كتابة معادلة الطاقة الأميركية- كما هي الحال بالنسبة لفرنسا وغيرها من الدول الغربية، التي قد تتمكن ذات يوم من الاستغناء عن إمدادات الطاقة القادمة من الشرق الأوسط.
إن التحدي الأساسي الذي يواجه أميركا على المستوى العالمي يتلخص في قبول حقيقة مفادها أنها لم تعد وحدها على القمة، فهي لم تضطر من قبل قط إلى التعامل مع آخرين باعتبارهم مساوين لها، على النقيض من القوى الأوروبية التقليدية، التي فعلت ذلك لقرون عدة من الزمان.
بيد أن التحدي الذي تواجهه الصين قد يكون أكثر صعوبة. فهي ليست مضطرة إلى التعايش مع واقع القوة الأميركية فحسب؛ بل ومن الواجب عليها أيضاً أن تضع المثال الأميركي نصب عينيها. ففي عام 1989، استولى عدد ضخم من الطلاب الصينيين على ميدان “السلام السماوي” (تيانانمين) للمطالبة بالمزيد من الحقوق، فتبنوا لهم رمزاً أشبه بتمثال الحرية. واليوم أيضاً، ليست القوة العسكرية الأميركية هي التي تهدد الصين أو تتحداها، بل الجاذبية الدائمة التي ينطوي عليها “الحلم الأميركي”.
* مؤسس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، وأستاذ في معهد الدراسات السياسية في باريس، ومؤلف كتاب “الجغرافيا السياسية والعاطفة: كيف تعيد ثقافة الخوف والإذلال والأمل تشكيل العالم”.
«بروجيكت سنديكيت
»