تحليل نفسي ـ اجتماعي للأميركي: كيـف يتفـاعـل مـع الانتخـابـات؟
على امتداد التاريخ الأميركي الحديث، لم يتخطّ أي رئيس فائز نسبة الـ60 في المئة. في المقابل لم تتحرك نسبة الـ40 في المئة، التي يُفترض وفق المتعارف عليه سياسياً أنها معارضة، ضدّ النظام بشكل فاعل سوى في محطات قليلة. هذا الواقع الممتد لعقود يطرح تساؤلات حول موقف الناخب الأميركي وطريقة تفاعله مع الانتخابات الرئاسية. هل هو انعدام للقيم المدنية والسياسية؟ أم قلة اهتمام؟ أم يكون وعياً سياسياً لدى شريحة واسعة يجعلها تؤمن بأن النتيجة لن تغيّر شيئاً، فيدفعها لمقاطعة الانتخابات؟
في تقرير مطوّل نشره معهد «ستراتفور» الأميركي، حاول جورج فريدمان، وهو مؤسس المعهد، سبر أغوار الناخب الأميركي في تحليل نفسي يستند إلى التجارب الانتخابية مع رؤساء أميركا منذ العام 1820، إضافة إلى محاولة فهم الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتحكم في خيارات هذا الناخب. ويتوزع الأميركيون على شرائح عدة بين المهتمين، وتبلغ نسبتهم 60 في المئة في أحسن الأحوال، فيما تصل إلى أقل من 50 في المئة في بعض الأحيان، وهؤلاء مستعدون لتغيير مواقفهم من دورة إلى أخرى. وهناك النسبة المقاطعة التي تكون في أسوأ الأحوال 40 في المئة، وقد ترتفع إلى أكثر بكثير، وهي إما غير مقتنعة بالسائد وغير مستعدة لبيع مبادئها، أو غير مهتمة أصلاً لأن «النظام قائم ولا شيء سيتغيّر».
التاريخ يعيد نفسه
أسبوع يفصلنا عن الانتخابات الأميركية، وإن صدقت الإحصاءات فستكون النتيجة متقاربة بشكل غير اعتيادي. كثيرون يقولون إن البلاد لم تكن يوماً منقسمة بهذا القدر. لكن قد يكون من المجدي الانتباه إلى أنه فيما تظهر الحملات الانتخابية كما يفترض اختلافاً جذرياً، فذلك لا يعني انقساماً عميقاً في المجتمع، إلا إذا كان الأخير مقسوماً طوال تاريخه.
منذ العام 1820، بدت نتائج الانتخابات متقاربة إلى حدّ كبير، علما أن ليندون جونسون حاز أعلى نسبة من الأصوات في تاريخ الولايات المتحدة في العام 1964 حيث وصلت إلى 61,5 في المئة، إضافة إلى ثلاثة رؤساء آخرين كسروا نسبة الـ60 في المئة كانوا وارين هاردينغ وفرانكلين روزفلت وريتشارد نيكسون.
خلال تسع دورات انتخابية فاز أحد المرشحين بنسبة تتراوح بين 55 و60 في المئة وهم أندرو جاكسون وأبراهام لينكولن وأوليسيه غرانت وثيودور روزفلت وهربرت هوفر وفرانكلين روزفلت ودوايت إيزنهاور ورونالد ريغان. وحده إيزنهاور كسر نسبة الـ55 في المئة مرتين.
ومنذ العام 1824 وحتى العام 2008 انتهت الحملات الانتخابية بفوز أحد المرشحين بأكثر من 55 في المئة ولكن ليس أكثر من 60 في المئة. وانتهت 18 جولة انتخابية بفوز أحد المرشحين بأقل من 50 في المئة من الأصوات. أما الـ16 دورة انتخابية الأخيرة فقد فاز خلالها الرئيس بنسبة تراوحت بين 50 و55 في المئة. واللافت للنظر هو أن الرؤساء الثلاثة الذين فازوا بنسبة أكثر من 60 في المئة لم يتركوا أثراً جيداً في أميركا وهم: هاردينغ وجونسون ونيكسون.
وفي النهاية، واجه أكثر الرؤساء الفائزين نفوذاً معارضة ضدهم وصلت في أحسن الأحوال إلى 40 في المئة. لكن المفارقة هنا صادمة. ففي أسوأ فترات الأزمة في البلاد، وفي أكثر حالات ضعف الرئيس المنتخب، لم تشهد نسبة الـ60 في المئة تحركاً ضدها. وباستثناء ما حصل في العام 1860، لم يقد الانقسام الحاصل يوماً باتجاه تهديد النظام القائم. بل على العكس، فقد توسع نفوذ الأخير على الرغم من الانقسامات.
الاستهتار السياسي
لماذا إذاً ما زالت أميركا منقسمة إلى هذا الحدّ، ولماذا لم تدفع هذه الانقسامات يوماً، إلا نادراًَ، باتجاه تغيير النظام؟ لنأخذ هذا التناقض البارز على ضوء واقع آخر هو أن نسبة واسعة من الناخبين المفترضين لا يصوّتون. هذا الواقع غالباً ما ينظر إليه على أنه تراجع في قيم المدنية والمواطنية، ولكن ماذا لو كان له تفسير آخر؟
أولاً لنفكر بالأمر من ناحية تقنية. أميركا واحدة من البلدان القليلة التي لم تجعل يوم انتخابات الرئيس متزامناً مع يوم عطلة وطني أو عطلة نهاية الأسبوع. وهذا يعني أن يوم الانتخاب يتزامن مع الذهاب إلى المدرسة أو إلى مكان العمل. وأمام المهمات المترتبة على الفرد من إيصال الأولاد إلى المدرسة والحضور إلى العمل ثم العودة لإحضار الأولاد من المدرسة، وكل ذلك وسط الصراع مع زحمة السير، لن يكون مفاجئاً إن لم يتمكن كثيرون من الذهاب للانتخاب أو أن يكون كبار السن هم الفئة الأكثر مشاركة.
في العادة تدلّ نسبة الاقتراع المنخفضة على ابتعاد (أو عدم رضى) فئة انتخابية مفترضة عن النظام القائم، ولكن الابتعاد الذي يؤدي إلى نسبة انتخاب منخفضة كان لا بدّ أن يترجم بحصول اضطرابات على الأرض طيلة القرنين الماضيين. أما ولم يحدث ذلك، فإن الابتعاد لا يترجم بعدم رضى بقدر ما يكون قلة اهتمام: نتيجة الانتخابات تُعدّ ببساطة أقل أهمية لعديدين من إحضار الأطفال من درس بيانو.
وقد ترجع نسبة الانتخابات المنخفضة كذلك إلى رضى موجود تجاه كلا المرشحين. البعض يقول إن باراك أوباما وميت رومني يظهران أقل اختلافاً بقدر ما يحاولان الظهور. وبعض الناخبين يتصورون أن لا اختلاف بين الاثنين إلى درجة يمكنهما العمل في مكتب واحد.
وقد يكون هناك تفسير آخر لهذه الظاهرة يتمثل بقلة اهتمام بعض الناخبين بهوية الرئيس والسياسة عامة. هم لا يصوتون ليس لأنهم خارجون عن النظام، بل لأنهم مقتنعون بأن النظام قائم كما قُدّر له أن يكون بغض النظر عن هوية الرئيس. واللافت أن النسبة التي لا تهتم بالسياسة تبدو أكثر ذكاء في تقييم موقع الرئاسة من الأطراف التي تبدي اهتماما لافتاً بهوية الرئيس.
دور الإيديولوجيين
لطالما حظيت أميركا بعدد من العقائديين الذين نظروا إلى الأحزاب كآليات للتعبير عن الإيديولوجيات ورسم مسارات البلاد. وفي حين أن الإيديولوجيات تغيرت منذ تراجع الفدراليون بوجه الديموقراطيين والجمهوريين، أصبح هناك انقسام إيديولوجي ملحوظ بين الحزبين الأخيرين. وفي الوقت ذاته، بدت صفوف الإيديولوجيين، الذين يفضلون خسارة الانتخابات على الصعود عبر منصة تتنافى مع مبادئهم، قليلة نسبياً.
قد ينظر اليميني إلى نفسه كعضو في حزب يميني عندما يفكر بنفسه بالمنظار السياسي، ولكنه لا ينظر إلى نفسه كسياسي. السياسة هامشية في تحديد هويته، وحتى لو قام اليميني بانتخاب يميني، كعضو ملتزم من الحزب، فإن اليمينيين من السهل أن يغيّروا الوجهة.
الدورات الانتخابية الأربع التي فاز فيها المرشحون بنسبة 60 في المئة كانت في أوقات الأزمة. خسر حينها الإيديولوجيون، إذ تبيّن أن الأزمات تعزّز العدائية تجاههم. جونسون تغلب في العام 1964 على باري غولدووتر الذي كان يعدّ مرشحاً إيديولوجياً من الصف الأول وذلك في الفترة التي تلت اغتيال كينيدي، وروزفلت تغلب على آلف لاندون الإيديولوجي المعادي له في أسوأ فترات اليأس الأميركي، ونيكسون تغلب على جورج ماك غوفرن المعادي للحرب خلال حرب فييتنام.
في الواقع، تؤدي الأزمات إلى إثارة أكثر المشاعر عدائية ضدّ إيديولوجية وتخلق أكثرية الـ60 في المئة ضمن تحالف معيّن. في المقابل يبقى هناك الـ40 في المئة الذين لا يغيّرون معتقداتهم في أي ظرف كان، بينما هناك ما يقارب الـ20 في المئة يصنفون كناخبين دون جذور، أي أنهم على استعداد لقلب مواقفهم من انتخابات إلى أخرى.
وفي حين أن نسبة الـ60 في وجه الـ30 توحي بانقسام حاد، بينما توحي النسب الأقل من 55 (والتي تغيّر فيها نسبة الـ5 في المئة النتيجة) بقلة اهتمام نسبية، لا يرى الايديولوجيون الأمر على هذه الناحية. بالنسبة لهم، إنه صراع بين العتمة والنور. هم يعتبرون أن الانتخابات مليئة بالمعاني مهما كانت النسب، بينما في الواقع قليلون من يتذكرون تلك الانتخابات، وهي برأيهم لم تغيّر شيئاً.
تقول استطلاعات الرأي إن النتائج ستكون متقاربة جداً. وإن كان الواقع كذلك فلن يتغيّر شيء، سوى أن العاطفيين على الجانب الخاسر من الانتخابات سيتهمون الرابح بالاحتيال وسرقة الانتخابات، فيما سينهض الباقون في صباح اليوم التالي ليعودوا إلى أعمالهم كما كان يحصل طيلة السنوات الأربع الماضية.. كأن شيئاً لم يكن