الدائرة القوقازية المظلمة
في الآونة الأخيرة بدأت السلطات الروسية باستعراض التدابير الأمنية الهائلة التي تعتزم تنفيذها قبل إقامة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في منتجع سوتشي على البحر الأسود، والواقع أنها لديها من الأسباب الوجيهة ما يدعو إلى القلق، وليس فقط على سلامة الرياضيين والمتفرجين.
لم يعد العنف الدائر في شمال القوقاز يمثل خطورة كبيرة باعتباره صراعاً إقليميا، بل تحول إلى تهديد وجودي للاتحاد الروسي برمته، وهو التطور الذي يكاد يعكس كل أخطاء وفشل وجرائم القيادة في مرحلة ما بعد الحقبة السوفياتية. لقد شهدنا حربين مروعتين مع انفصاليين محليين في الشيشان، أثناء الفترة 1994-1996 ثم الفترة 1999-2006، وكان الهدف المفترض من هاتين الحربين تأمين سلامة أراضي روسيا، ولقد خضنا نحن الروس هاتين الحربين لكي نثبت للشيشان أنهم أيضاً مواطنون روس، ففعلنا ذلك بتدمير مدنهم وقراهم بقذائف المدفعية والقصف الجوي، واختطفنا وقتلنا المدنيين، الذين تحمل جثثهم عادة آثار التعذيب، ولا ينبغي لأحد أن يندهش عندما لا يشعر الشيشان، وغيرهم من شعوب القوقاز، بالانتماء القوي لروسيا. وفي واقع الأمر، خسرت روسيا الحرب ضد الانفصاليين الشيشان، وكان الفائز هو رمضان قديروف، أحد القادة الميدانيين في القتال، فهو في ظاهر الأمر معين من قِبَل رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين، ولكنه في واقع الأمر مستقل تقريباً عن الكرملين، الذي يغدق عليه بالدعم المالي، ليس فقط بسبب إعلانه الرسمي للولاء، بل أيضاً في نظير دعمه لبوتين علناً.
والآن تطورت الحرب ضد الانفصاليين في شمال القوقاز إلى حرب ضد الأصولية الإسلامية، والواقع أن الإرهاب الذي يرعاه إسلاميون، والذي كان نتيجة للعنف في حربي الشيشان، انتشر على نطاق واسع في المنطقة، في ظل إسهام السياسات الروسية المماثلة لتلك التي رأيناها في أثناء حرب الشيشان في زيادة عدد الإسلاميين. فعلى سبيل المثال، يدعو الرئيس ديميتري ميدفيديف بشكل منتظم إلى ‘حرق المتطرفين’ وتوقيع عقوبات مروعة عليهم، بما في ذلك ‘غسل الكتان وإعداد الحساء للمتطرفين’، ونظراً لافتقار القوات الفيدرالية إلى الأخلاق، فكان من الواجب على ميدفيديف أن يدرك أن مثل هذا الخطاب من شأنه أن يؤدي إلى زيادة كبيرة في عمليات القتل الوحشية التي تنفذ من دون أي غطاء قانوني في أنحاء شمال القوقاز المختلفة. ولم تخدم الفوضى الناجمة عن ذلك إلا كسبب لتفريخ المفجرين الانتحاريين العازمين على جلب موجة جديدة من الإرهاب إلى قلب روسيا، ومن عجيب المفارقات اليوم أن الإسلاميين يفقدون نفوذهم في العالم العربي في حين يتعزز موقفهم في شمال القوقاز، إذ خاض الكرملين حرباً دامت 12 عاماً من دون فهم النطاق الكامل للمأساة الجارية هناك- الحرب الأهلية والعرقية التي يتحمل الكرملين ذاته قدراً عظيماً من المسؤولية عن اندلاعها. إن الإتاوة التي يدفعها الكرملين لقديروف والنخب الفاسدة في جمهوريات القوقاز الأخرى كانت وسيلة لشراء القصور والمسدسات الذهبية لرجال يدفعون الشباب العاطلين المحرومين في المنطقة إلى حافة الثورة الإسلامية، وفي أنحاء القوقاز المختلفة نشأ جيل مناهض لروسيا، وعُرضة على نحو متزايد للتجنيد في صفوف المحاربين باسم الله. هناك فجوة ذهنية يكاد يكون سدها مستحيلاً تفصل الآن بين الشباب الروسي والقوقازي،
فالشباب من سكان موسكو يخرجون في مسيرات حاملين لافتات تقول ‘اللعنة على القوقاز’، في حين ينظر شباب القوقاز إلى أنفسهم باعتبارهم الجانب الفائز في شمال القوقاز، ويتصرفون على نحو استفزازي وعدائي متزايد في شوارع المدن الروسية. وفي قلوب وعقول الناس على الجانبين، أصبح كل من الروس والقوقازيين يشعرون بالنفور المتزايد من الطرف الآخر، ولكن لا الكرملين ولا حلفاء شمال القوقاز على استعداد للانفصال الرسمي. فالكرملين لا يزال متشبثاً بأوهامه الإمبراطورية حول ‘منطقة المصالح المتميزة’ التي تمتد إلى ما هو أبعد من حدود روسيا، في حين يحكم حلفاء شمال القوقاز، بدءاً بقديروف، وكأنهم حكام مستبدون مستقلون سعداء بقبول الصدقات من ميزانية الدولة الروسية. والمفارقة هنا أن الإسلاميين، مثلهم في ذلك كمثل الكرملين وحلفائه، لا يريدون الانفصال، بل إنهم يحلمون بالخلافة التي تمتد لتشمل جزءاً أكبر كثيراً من الاتحاد الروسي وليس شمال القوقاز فحسب.
وأخيرا، دعا ميدفيديف إلى اجتماع عام ضخم في فلاديكافكاز، ولقد اتهم أعداءً مجهولين (ويفترض أنهم يشتملون على حكومات غربية) بملاحقة أجندة راغبة في تدمير روسيا، كما شجع المسؤولين الأمنيين على الهجوم، ففي عالمه العقلي، يتصور ميدفيديف أن الأعمال الانتقامية الوحشية اليوم قد تعمل على نحو ما على تحويل شمال القوقاز إلى منطقة صالحة لسياحة التزلج الدولية في الغد.
ولكن من غير المرجح أن يحدث هذا، ففي اليوم التالي لمغادرة ميدفيديف لمدينة فلاديكافكاز، فجر الإرهابيون مصاعد التزلج في منتجع نالتشيك، وليس بعيداً عن سوتشي، إذ لن يقتصر ما يصبح على المحك في عام 2014 على الفوز بالأوسمة.
* عالم سياسي روسي وزميل زائر لدى معهد هدسون في واشنطن العاصمة.
«بروجيكت سنديكيت»