“غزة الثانية”… وحسابات نتانياهو الخاطئة!
رغم كل هذا الدخان الأسود، الذي يحاول نتنياهو أن يغطي فيه الإخفاق المريع لعدوانه على غزة، فإن «حرب غزة الثانية» ستشكل منعطفاً في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي عامة، والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بشكل خاص، وذلك على إيقاع تحرّك دول الربيع العربي، وفي مقدمتها مصر، من جهة، ومع دخول سلاح الصواريخ ميدان المعركة بشكل أساسي، من جهة ثانية.
ومهما حاول رئيس الحكومة الإسرائيلية أن يكابر، ويتجاهل بأن عدوانه على غزة لم يكن هذه المرة، مجرّد نزهة لطائراته في سماء القطاع الصامد، فإن الرأي العام الإسرائيلي عاش، وقد تكون من المرات النادرة في تاريخ الدولة الصهيونية، رعب الصواريخ التي تجاوزت أرض المعركة في المناطق الفلسطينية، لتصل إلى تل أبيب وعسقلان وبئر السبع، وغيرها من المدن ذات الكثافة السكانية.
وبقدر ما كان نتنياهو يراهن على حرب غزة لكسب تأييد الناخب الإسرائيلي في انتخابات كانون الثاني المقبل، وتعزيز مواقعه في السلطة على حساب بعض الحلفاء الحاليين، بقدر ما ستكون النتائج كارثية عليه، بعدما استطاعت صواريخ حماس ان تدفعه وكبار مساعديه، إلى مغادرة مكاتبهم بهلع، والنزول إلى الملاجئ، بعدما نجحت تلك الصواريخ في تعطيل الحركة اليومية في تل أبيب والمدن الأخرى، وإشاعة موجات من الخوف والتوتر في صفوف الإسرائيليين، الذين امتنعوا عن إرسال أولادهم إلى المدارس، كما غاب الكثيرون منهم عن مراكز أعمالهم!
طبعاً، ما زالت المواجهة العسكرية مع آلة الحرب الإسرائيلية تفتقد التوازن الاستراتيجي في السلاح والرجال، ولكن استمرار هذا الخلل لم يمنع الاعتراف الدولي بتنامي قوة الردع عند الجانب الفلسطيني، الذي استطاع أن يوسّع رقعة المعركة، وينقلها إلى الداخل الإسرائيلي، بعدما كانت، حتى الأمس القريب، كل المعارك تدور على الأرض الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، وتبقى المدن الإسرائيلية والمناطق المحتلة الأخرى بعيدة عن أرض المعركة، وينعم سكانها بحياتهم العادية!
* * *
يمكن القول، إذاً، إن العدوان الإسرائيلي اصطدم بإرباك الصواريخ، وكاد يضيّع توازنه في المعركة، رغم اللجوء إلى «القبة الحديدية»، لاصطياد الصواريخ قبل وصولها إلى الأرض.
ولكن هذا الارتباك على الصعيد العسكري، قابله أيضاً ارتباك أكبر في إدارة المعركة سياسياً، حيث تبين أن خطيئة نتنياهو الثانية كانت تجاهله المتغيّرات الجذرية التي أحدثتها ثورات الربيع في العالم العربي، خاصة الثورة المصرية التي أوصلت أعرق حركة إسلامية عربية إلى السلطة في أكبر دولة عربية، مرتبطة باتفاق سلام مع الدولة العبرية.
أخفق نتنياهو في التمييز بين المواقف المصرية التي اعتاد عليها إبان حكم الرئيس حسني مبارك، وبين المواقف والإجراءات التي يمكن أن تتخذها قيادة الإخوان المسلمين لنصرة رفاقهم في غزة في مواجهة القوة الإسرائيلية الغاشمة.
سحب السفير المصري من تل أبيب كان مجرّد إجراء روتيني، سبق لمبارك أن أقدم عليه إبان حرب غزة الأولى عام 2008، ولكن ما لم يتوقعه نتنياهو كان فتح معبر رفح بشكل دائم، وإيفاد رئيس الحكومة المصرية على عجل إلى غزة لتأكيد التضامن، وبحث الاحتياجات الضرورية والفورية، وذلك إلى جانب مناقشة سبل إنهاء الحرب وإعادة التهدئة بأسرع ما يمكن.
نجح الرئيس المصري محمّد مرسي في اختبار غزة الشائك، من دون أن يتخلّى عن الاستراتيجية التي حملت جماعته إلى قمّة السلطة المصرية ويكون بذلك، قد ردّ التحدي والإحراج إلى عقر نتنياهو الذي كان يسعى إلى اختبار مرسي، وإحراجه أمام عواصم القرار الدولي، عشية المفاوضات المصرية مع البنك الدولي والاتحاد الأوروبي لتأمين القروض المالية الملحة.
* * *
شهد العالم للرئيس المصري بكفاءته في إدارة ملف الحرب على غزة، من خلال مدّ يد الدعم والتأييد لحماس من جهة، وعبر إطلاق مروحة من الاتصالات الدبلوماسية بدءاً من واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى القمة الرباعية في القاهرة، التي جمعت، إلى مصر، كلاً من قطر وتركيا وقيادة حماس.
حرصت الاتصالات والمشاورات المصرية على المزاوجة بين الوقوف إلى جانب غزة في حقها المشروع بالدفاع عن شعبها، وبين المساعي للتوصل إلى وقف النار بضمانات دولية، هذه المرة، تحول دون تكرار الألاعيب الصهيونية في اصطياد القادة والمواقع الفلسطينية، بعد إعلان وقف النار.
وبالمقابل، فإن العدوان الإسرائيلي الواسع على غزة أحرج الرئيس الأميركي باراك أوباما، ومعه الاتحاد الأوروبي إلى حدّ بعيد، رغم تحفظ بعض المسؤولين الأوروبيين على استخدام القوة المفرطة، من قبل الجانب الإسرائيلي، ومعارضتهم شن هجوم برّي إسرائيلي على القطاع.
فالرئيس الأميركي لم يبدأ ولايته الثانية بعد، والتي راهن كثيرون على تصحيح بعض المواقف الأميركية خلالها، خاصة بالنسبة لتأمين الدفع الأميركي اللازم لعملية السلام، والضغط على تل أبيب للعودة إلى المفاوضات مع الفلسطينيين.
أما الاتحاد الأوروبي، فقد خرج وفده الوزاري من قاعة جامعة الدول العربية، قبل أيام، بعد اجتماعات مع نظيره العربي، أكد خلالها على الشراكة الأوروبية – العربية في زمن الديمقراطيات العربية الوليدة. فجاءت مواقف بعض الدول الأوروبية في تبرير الهجمة الإسرائيلية لتقول بأن الكلام الأوروبي في الليل العربي يمحوه النهار الإسرائيلي رغم عدوانيته المشهودة!
* * *
قد تنجح المساعي العربية في وقف العدوان على غزة بسرعة… وقد يركب نتنياهو رأسه في توسيع الحرب براً، والتصعيد جواً، في محاولة يائسة لإنقاذ ماء الوجه سياسياً، والحفاظ على الجيش الإسرائيلي وقدرته الردعية، عسكرياً… ولكن في الحالتين شرب نتنياهو الكأس المرّة التي حاول أن يُجرّعها للشعب الفلسطيني في غزة، ولا بد أن يدفع ثمنها في الانتخابات المقبلة… التي ستكرّس نتائجها فشل المغامرة العسكرية الأخيرة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، حتى يعترف، في ساعة الحقيقة، بأن «حرب غزة الثانية» شكّلت منعطفاً مهماً في مسار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، قد نحتاج إلى سنوات مريرة أخرى، ليصل مفعول هذا المنعطف الى الصراع العربي – الإسرائيلي… وما بقي من مشاريع السلام الوهمية!