هل تفلت حركة «حماس» بفعلتها بعد استهداف إسرائيل؟
أصبحت «حماس» أمام معضلة جدية، فبصفتها حاكمة غزة لم تستطع التفرج على الوضع من الهامش بينما كانت إسرائيل تستهدف الأراضي التي تسيطر عليها، لكنها عجزت عن كبح السلفيين بالكامل من دون أن تثبت بشكل قاطع أنها لم تعد حركة مقاوِمة.
فوجئ عدد كبير من المراقبين بسبب تصعيد القتال بين إسرائيل و”حماس” في الأيام الماضية، فقد أدت عملية “الرصاص المصبوب” التي أطلقتها إسرائيل في عام 2008 ضد “حماس” إلى إرساء هدوء صعب بين الطرفين المتخاصمين، ثم ظن المراقبون أن إسرائيل و”حماس” وجدتا طريقة لإدارة الصراع في السنة الماضية بعد إطلاق سراح جلعاد شاليط (الجندي الإسرائيلي الذي خطفه متشددون في عام 2006) مقابل إطلاق ألف معتقل فلسطيني، لكن “حماس” هاجمت دورية إسرائيلية داخل الأراضي الإسرائيلية في 10 نوفمبر، فردت إسرائيل باغتيال القائد العسكري في “حماس”، أحمد الجعبري. لكن هذه المرة، لم تتوقف أعمال العنف التي تبعت ذلك التصعيد سريعاً، ولا يزال القتال مستمراً.
نظراً إلى الدمار الذي أحدثه آخر صراع واسع بين إسرائيل و”حماس”، تبدو حسابات “حماس” في المرحلة التي سبقت هذه الجولة من القتال صادمة. ينتشر تفسير تقليدي لتبرير تلك الاعتداءات مفاده أن “حماس” عززت حملتها الصاروخية في وقت سابق من هذه السنة بهدف كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، في المقابل، اضطرت إسرائيل إلى الرد لأنها تتعرض للهجوم.
لكن يبقى ذلك الجواب غير كافٍ. على مستويات عدة، سبق أن خُرق ذلك الحصار أصلاً. صحيح أن قطاع غزة منطقة صغيرة ومكتظة بالسكان وتقع بين إسرائيل ومصر وتتكل على البلدين معاً لتمرير الناس والسلع (ما يعزز مخاوف المنطقة من ضيق المساحات)، لكن جهود إسرائيل الرامية إلى إحكام السيطرة على حدود المنطقة قد تلاشت، وحدث ذلك بعد أن فازت “حماس” بالانتخابات هناك في عام 2006. بعد الكارثة التي انعكست على العلاقات العامة غداة إخفاق إسرائيل في التعامل مع أسطول المساعدات التركي الذي كان متجهاً إلى غزة في عام 2010، زاد تدفق السلع نحو غزة عبر الحدود الإسرائيلية بشكل ملحوظ. كذلك، أصبحت الأنفاق الواقعة تحت حدود غزة مع مصر (يتم تهريب معظم السلع التي تصل إلى غزة عبرها) منفلتة لدرجة أنها باتت تشبه المعابر الرسمية. قد تصل قيمة التجارة التي تمر عبر الأنفاق إلى 700 مليون دولار سنوياً.
بطريقة أو بأخرى، فإن “حماس” لديها مصلحة سياسية لاستغلال فكرة الحصار من أجل تأجيج الغضب ضد إسرائيل وكسب الدعم الشعبي. كذلك، كان من المنطقي أن تتحكم “حماس” بحركة السلع المتّجهة إلى غزة بما أن قطاع التهريب كان يعزز مكاسبها. صحيح أن الحياة في غزة لم تكن مثالية بالنسبة إلى السكان، لكن رغبة “حماس” في كسر الحصار ليست تفسيراً مقنعاً لتجديد أعمال العنف ضد إسرائيل.
ثمة عاملان دفعا “حماس” إلى تكثيف حملة القصف: المنافسة التي تواجهها من الجماعات السلفية، وقناعة “حماس” بأن بيئتها الاستراتيجية تحسنت غداة الربيع العربي. منذ انتخاب “حماس”، واجهت منافساً يصعب التحكم به وهو يتمثل بالجماعات السلفية في غزة. لم تكن حركة “فتح” يوماً تطرح تحدياً مماثلاً عليها مع أنها كانت أبرز منافِسة لـ”حماس” قبل طردها من المنطقة في عام 2006: بعد انهيار عملية السلام في أوسلو وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة بفضل نشاطات “حماس” القتالية (أقله بحسب رأي سكان غزة)، لم تتمكن بقايا “فتح” من متابعة المنافسة، لكن جاءت الجماعات الجهادية الصغيرة لتجسد روح القتال، على عكس “حماس”، كانت تلك الجماعات محرَّرة من الضوابط التي يفرضها الحكم على الفكر الإيديولوجي.
تحت الضغط، حاولت “حماس” بشكل متكرر كبح التهديد السلفي ولم تتردد في استعمال القوة الوحشية لفعل ذلك. حصل أبرز مثال على ذلك في أغسطس 2009، حين قتلت “حماس” زعيم “جند أنصار الله” (جماعة سلفية كانت قد تحدّت سلطة “حماس” علناً) وعدداً من أعضائها. لكن “حماس” امتنعت عن استعمال أقصى درجات العنف لقمع الحركة السلفية في غزة لأن هذا الأمر كان سيكلّفها الكثير، وهكذا فشلت “حماس” في التخلص من التحدي السلفي، فراقبت بقلق متزايد ظهور الجماعات السلفية الجديدة وتنامي قوتها في أنحاء القطاع.
زادت الضغوط على “حماس” غداة الانتفاضات العربية في عام 2011. صبّت الثورة المصرية والفوضى اللاحقة في شبه جزيرة سيناء في مصلحة السلفيين في غزة. أطلق انهيار الأنظمة الاستبدادية في شمال إفريقيا سيلاً من المقاتلين والأسلحة وكان السلفيون ينقلونها إلى شبه جزيرة سيناء. حين عجز الجيش المصري عن السيطرة على المنطقة، حوّل السلفيون شبه الجزيرة إلى ساحة لشن الاعتداءات على إسرائيل. كانوا يظنون (عن وجه حق) أن إسرائيل لن تجرؤ على الرد بشكل مباشر خوفاً من تهديد سلامها مع مصر.
عمدت إسرائيل إلى إحباط الاعتداءات الآتية من سيناء وقطاع غزة قدر الإمكان لمنع سكان غزة من الوصول إلى سيناء في المقام الأول. في عدد من المناسبات، استهدفت إسرائيل بشكل استباقي القادة السلفيين في غزة. رد السلفيون من خلال إطلاق الصواريخ على البلدات في جنوب إسرائيل. هكذا أصبحت فترات الهدوء بين جولات العنف قصيرة ونادرة.
بسبب النظام الإقليمي الجديد، أصبحت “حماس” أمام معضلة جدية، وبصفتها حاكمة غزة، لم تستطع التفرج على الوضع من الهامش بينما كانت إسرائيل تستهدف الأراضي التي تسيطر عليها، لكنها عجزت عن كبح السلفيين بالكامل من دون أن تثبت بشكل قاطع أنها لم تعد حركة مقاوِمة. بالنسبة إلى “حماس”، كان الخيار الوحيد يقضي بتحمل الاعتداءات. في الداخل، اعتبرت تلك الاعتداءات طريقة لمتابعة النضال ضد إسرائيل، لكن في الخارج، رفضت الاعتراف بأي دور لها في تلك العمليات بهدف تخفيض حدة التداعيات. مع مرور الوقت، أدت الضغوط التي فرضها المجندون في “حماس” إلى اضطلاع الحركة بدور ناشط أوسع في كل جولة من العنف.
لكن الخطأ في منطق تفكير “حماس” يتعلق بواقع أنها افترضت أن إسرائيل ستتعاون ولن ترد، لكن لا يمكن أن تسمح إسرائيل لحماس بإنكار مسؤوليتها، لذا طالبت الحركة بترسيخ سلطتها على الفصائل المتطرفة. لتدعيم هذه الرسالة، نفذت إسرائيل هذه السنة عدداً من الاعتداءات على مواقع “حماس”. حين أصبحت “حماس” الطرف المستهدَف، لم تتمكن من ضبط نفسها بل استأنفت هجومها على إسرائيل، وقد سُرّ المجنّدون في “حماس” بتلك الخطوة لأنهم كانوا سينشقون عن الحركة وينضمون إلى الجماعات الأكثر تطرفاً لولا حصول تلك الاعتداءات.
أخطأت “حماس” في حساباتها أيضاً حين توقعت من مصر أن تدعم نشاطاتها التي كانت ستسمح للحركة بتصعيد الصراع من دون أن يخرج عن السيطرة، وذلك تزامناً مع حرص إسرائيل على استمرار تعاونها مع النظام في القاهرة. لكن لم تكن تلك الآمال خاطئة. في شهر أغسطس، أقال الرئيس المصري محمد مرسي كبار المسؤولين في الجيش وفرض سيطرة كاملة على الشرطة وقوى الأمن المصرية. كان ذلك التطور لافتاً بما أن المجلس العسكري الأعلى الذي حافظ على علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة لم يكن مهتماً جداً بمساعدة “حماس”. لكن الحركة أخطأت في حساباتها مجدداً. لم تساهم علاقات “حماس” الوثيقة مع مصر في منع إسرائيل من الرد.
بكل بساطة، لم تكن بيئة “حماس” الاستراتيجية ملائمة بقدر ما ظنّت الحركة، فحين حاولت استنزاف صبر إسرائيل، ردت عليها هذه الأخيرة.
أصبحت الحركة الآن في وضع شائك، فهي تحتاج إلى حل يحفظ ماء وجهها في القتال ويسمح لها بادعاء تحقيق إنجاز معين يوازي الدمار الذي شهدته غزة هذا الشهر. لكن حتى بعد فعل ذلك، ستواجه الحركة التوتر التقليدي نفسه بين إيديولوجيا المقاومة ومسؤوليات الحكم. في الوقت نفسه، سيراقبها منافسوها السلفيون عن كثب وسيشككون بنضالها ضد إسرائيل.
إذا أرادت “حماس” تجنب تصعيد الوضع بهذا الشكل مستقبلاً، فيجب أن تقمع تلك الجماعات، لكن سيترافق ذلك مع ثمن معين تبدو “حماس” غير مستعدة لدفعه (على مستوى الشعبية والشرعية)، يجب أن تنتقل “حماس” أخيراً من حركة مقاوِمة إلى حزب سياسي عادي. لا شك أنها ستحتاج إلى تشجيع من القاهرة للقيام بذلك، تحصل “حماس” على الغطاء الذي تحتاج إليه لتطبيق تلك العملية الانتقالية الضرورية بفضل تحالفها مع “الإخوان المسلمين” في مصر.
كذلك، تُعتبر جماعة “الإخوان المسلمين” نموذجاً جيداً كي تقتدي به، ما لم يحصل هذا التحول السياسي في بنية “حماس”، لن يستمر وقف إطلاق النار مع إسرائيل لفترة طويلة، ستبقى جولة العنف المقبلة وشيكة دوماً