التحضير للتسوية الكبرى مع إيران
”
مواجهات غزة التي زادت من تعقيدات الشرق الأوسط، ضاعفت قناعة الرئيس الاميركي باراك اوباما بأن الحل شبه الوحيد المتاح لكتلة الأزمات هذه هو عبر المفاوضات والتوصل الى تسويات تضمن المصالح الأميركية في هذه المنطقة الساخنة والمعقدة من العالم.
وقد تكون واشنطن وجدت في اشتعال النار فجأة في غزة مدخلاً جيداً لتهيئة ظروف ناجحة لهذه المفاوضات. فالصفعة التي تلقاها نتنياهو تنذر بخسارته الانتخابات المقررة في شهر كانون الثاني المقبل، ما يعني ازاحة عائق اساسي كان يعمل على عرقلة المسار التفاوضي مع ايران.
ففي مؤتمره الصحافي الاول بعد فوزه بولاية ثانية، قال الرئيس الاميركي صراحة انه يرغب بصدق في التوصل الى حل دبلوماسي للأزمة مع ايران.
وهذا الكلام الذي دشن به الرئيس الاميركي مرحلة ما بعد تجديد ولايته، جاء مترافقاً مع الأجواء التي روجتها الأوساط الدبلوماسية الاميركية بأن مرحلة التحضير للتسوية الكبرى قد بدأت فعلياً.
وإذا كانت مواجهات غزة تحمل في طياتها جوانب كثيرة من الخيوط المتشابكة للصراع الإقليمي الحاصل، وتداخل الألوان بعضها ببعض، الا ان خطوط تسوية “وقف اطلاق النار” التي ستعلن، اضافة الى الاطراف المشاركة فيها، ستعطي صورة اولية للتصور المرتقب حول التسوية مع ايران.
فالرئيس الاميركي باشر اعادة ترتيب سياسته الخارجية ومجلس الامن القومي، وتعيين بديلين عن وزيري الخارجية هيلاري كلينتون والدفاع ليون بانيتا. وفيما يرزح ثقل الأزمة الاقتصادية على خطط البيت الابيض بدا أن اوباما يعوّل على فتح اسواق ايران كأحد العوامل المحركة للاقتصاد الاميركي، اضافة، بالطبع، الى الاسواق الاخرى مثل سوريا والعراق.
وفي التقليد الرئاسي الاميركي، إن رئيس الجمهورية يطمح خلال ولايته الاولى لتحقيق انجازات ترضي الشارع الاميركي والقوى المؤثرة فيه بهدف ضمان حظوظ اكبر للتجديد. ووفق المسار نفسه جاء تصريح الناطق باسم الرئيس الروسي ان الرئيس الأميركي اكد قبول دعوة نظيره الروسي بزيارة موسكو.
وعلى رغم الانطباع المخادع الذي يمكن ان تعطيه خطوة تزويد تركيا بصواريخ بتريوت، إلا ان ما يحصل قد يكون من مستلزمات التحضير الجيد للمفاوضات، اضف الى ذلك اعادة لملمة الوضع التركي الداخلي الذي شهد تصدعات خطيرة نتيجة ارتدادات الازمة السورية، ان على مستوى التمرد التركي او حتى على مستوى ارتفاع الحساسية المذهبية بين الاقلية العلوية التي تتمتع بنفوذ قوي في الجيش والقضاء واساتذة الجامعات، وبين الاغلبية السنية التي تحكم من خلال حزب اسلامي معتدل، ويعوّل عليه الاميركيون في مهمة “تحديث” التنظيمات الاسلامية العربية.
ولأن الاستقرار التركي، لا بل دور تركيا، يبقى في اولوية الاهتمامات الاميركية، جاءت خطوة “البتريوت” وقد تليها خطوات أخرى لاحقاً. ولأن الاوساط الدبلوماسية تتحدث عن ورشة تنظيمية داخل الادارة الاميركية تتلازم مع مرحلة “التسويات الكبرى”، جاءت استقالة ديفيد بترايوس مدير وكالة الاستخبارات المركزية لتضع علامات استفهام كثيرة حول حقيقتها وتوقيتها وخلفياتها.
مراكز الدراسات الأميركية التي تابعت هذه الخطوة، رسمت علامة بين ما حصل وبين تحضير الفريق الرئاسي لمرحلة المفاوضات مع ايران وروسيا.
واشارت مراكز الدراسات هذه الى ان استقالة بترايوس ظاهرها علاقة عاطفية، لكن باطنها خلافات قوية مع مراكز القوة الاخرى على خلفية عسكرية لمهام وكالة الاستخبارات ومحاباة طائرات الدرونز وقوات العمليات الخاصة، ما خلق ازمة كامنة بين الاجهزة الامنية الرئيسة، مع الاشارة الى ان بترايوس كان شخصية مفضلة لخصوم الرئيس الاميركي من الجمهوريين، إلى درجة ان الانطباع السائد كان حول احتمال ترشيح بترايوس لرئاسة الجمهورية من الحزب الجمهوري في مرحلة لاحقة.
لكن النقطة الأبرز كانت في نظرة بترايوس إلى العلاقة مع ايران. فصحيح أن الضابط الاميركي اللامع كان صاحب التأثير في قرار وصول المالكي الى رئاسة الحكومة العراقية، او بمعنى اوضح تغليب الحصة الايرانية على الحصة السعودية في العراق، الا انه ساهم فيما بعد في عرقلة الصفقة الكبرى مع ايران، كون تمددها خارج الحدود العراقية سيجعل الأمور تصعب كثيراً على المصالح الاميركية، فيما الاقرار بنفوذها في العراق فقط سيساهم في حماية هذه المصالح.
ويكشف “معهد هدسون” أن بترايوس كان يتعاطى مع الجمهورية الاسلامية على انها في حالة حرب مع الولايات المتحدة الاميركية كونه يعتقد أن المعضلة الكبرى تكمن في طبيعة النظام الايراني ذاته الذي يرمي الى اخراج الولايات المتحدة الاميركية من المنطقة في النهاية. ويضيف “معهد هدسون” ان بترايوس كان يضع رئيس قوات القدس الإيرانية قاسم سليماني بمثابة العدو الشخصي له.
وانطلاقاً من هنا، هل يكون إحراج بترايوس ومن ثم اخراجه، من ضمن ترتيبات تحضير المفاوضات مع ايران؟ على خط موازٍ، يجري التحضير للمفاوضات مع موسكو، والتي ستشكل الأزمة السورية احد المداخل لملف متشابك ومعقد بدءاً بنظام الدفاع الصاروخي لحلف الناتو على اراضي بولندا وتشيكيا، مروراً بعضوية روسيا في منظمة التجارة الدولية، وصولاً الى الشرق الاوسط.
فقبول موسكو بفرض عقوبات على ايران لم يوقف العمل بالبرنامج النووي، كما ان ترحيب بوتين ببقاء قوات حلف الناتو في افغانستان ينعكس سلباً على بقاء القوات الاميركية بالقرب من الحدود الروسية واضطرارها إلى التصدي لإرهاب المجموعات الاسلامية المتطرفة، كما ان بوتين طرد وكالة التنمية الدولية الاميركية من روسيا وجمّد العمل بالقانون الاميركي لعام 1992 القاضي بالتخلص من اسلحة الدمار الشامل، وهو ما يدفع واشنطن إلى التفاوض حول معاهدة نووية بشروط جديدة لا تبدو حظوظها مرتفعة. كما أن روسيا لا تريد خفض وتيرة مبيعاتها من الأسلحة الى الشرق الاوسط.
وفي المحصّلة، إن ابواب التفاوض التي تحضر واشنطن لفتحها على طهران وموسكو، لا تبدو سهلة، لا بل على العكس، على رغم من ان ادارة اوباما لا ترى سبيلاً مقبولاً لضمان مصالحها في المنطقة الا عبر انجاز تسويات كبرى في ظل ازمة اقتصادية تخنقها.
من هنا، فإن مواجهات غزة تشبه الى حد بعيد تعقيدات المنطقة لناحية تداخل الخيوط وتضارب المصالح، ما يستوجب قراءة متأنية لقرار وقف اطلاق النار الذي لا بد من ان يصدر.