مدخل لدراسة الرواية الفلسطينية في اسرائيل
تعتبر الرواية من ارقى الفنون الادبية واعظمها القادرة على اجتياز الزمان والمكان ، وهي مؤلف ادبي يسرد ويحكي في صورة شاملة متعددة الجوانب والاشكال قصة شخصية او عدة شخصيات متشابكة، مع توضيح تطور حياة هذه الشخصية او الشخصيات في تفاعلها المتبادل بدائرة الحياة الممتدة والمعقدة ، ومع الظروف الحياتية للعصر .
وتختلف نوعية الرواية تبعاً لاختلاف المضامين والموضوعات ، التي تعكسها وتطرحها، فهناك الروايات البوليسية والاجتماعية والفلسفية والنفسية والسياسية والعاطفية والتاريخية.
وفي بلادنا لم تظهر الرواية الحقيقية الا في السبعينات من القرن الفائت ، ويرجع سبب ذلك الى حاجتها للبعد التاريخي وتراكم التجربة ، وكانت التجربة الروائية الاولى للكاتب الروائي والاديب والسياسي الراحل اميل حبيبي وهي “سداسية الايام الستة” ثم روايته “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل” ، التي صدرت طبعتها الاولى في صيف العام 1974، وتبرز فيها العناصر الاسلوبية التراثية المثيرة للاصداء القديمة ، وتطفح بالاجواء الشعبية والعامية والمواقف والاحداث ، التي تربط الحاضر بالماضي، وتؤسس لتفاؤل تاريخي منبثق من اعمال النفس الفلسطينية والانسانية المعذبة المتألمة والجريحة.
وهذه الرواية حظيت بشهرة واسعة بين القراء والمبدعين والدارسين والباحثين والنقاد العرب والفلسطينيين في الداخل والخارج ، الذين تلقفوها بشغف وتناولوها بالدراسة والعرض والنقد التحليلي، واجمعوا على خصوصيتها وفرادتها وتميزها في الادب القصصي والروائي الفلسطيني واشاروا الى تأثر اميل حبيبي بقصة “كنديد” لفولتير.
وفي حينه كتبت مجلة “الاقلام ” العراقية : ” لم يكن اميل حبيبي ليوفق الى بناء هذه الرواية الهائلة ، التي تعد بحق رواية المأساة الفلسطينية الاولى والحقيقية ، لو انه لم يتوخ الصدق، الصدق في كل شيء”. اما الكاتب والناقد الفلسطيني فاروق وادي فقال:” ان اميل حبيبي يؤسس اساليب وأشكالاً متجددة، فلا تنفصل الرؤية الجديدة عن تأسيس الاشكال الجديدة، بل يترلبطان باحكام جدلي لتحقيق نتاج جديد ، لا يتوقف طموحه عند حدود انعكاس الواقع على صفحته، ولكنه يتخطى ذلك ليصبح اداة هدم وبناء ايديولوجية ، هدم الايديولوجيا الرجعية وبناء وتثبيت الايديولوجيا الثورية “. وفي منتصف الثمانينات اصدر الراحل اميل حبيبي “اخطيه” و”سرايا بنت الغول” وقد تميز في جميع رواياته بالسخرية والطرافة والضحك من اعماق الجرح والواقع البائس القاهر .
ومع انفجار الانتفاضة الشعبية الفلسطينية في المناطق المحتلة صدرت عدة روايات عالجت بمجملها الوضع الفلسطيني العام في ظل الاحتلال ، وتطرقت لممارساته القهرية التنكيلية ،وصورت الظروف الحياتية المأساوية الموجعة في المخيمات الفلسطينية .
كما ابرزت الوعي السياسي الثوري الفلسطيني والرؤية الواقعية لحل العقدة الفلسطينية . ومن هذه الروايات :” عبير الياسمين” لجمال قعوار ، و”احمد محمود وّخرون” لزكي درويش ـ والآخرون هم بقية افراد الاسرة ، الأب، الأم، الأخت، والصديق وجميع الناس الذين يعايشون الانتفاضة الفلسطينية، ورواية” الطريق الى بير زيت” لادمون شحاده ، التي توزعت على ستة فصول وموضوعها هو نضال الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة ، ومسرح احداثها بلدة بير زيت التي عرفت واشتهرت بجامعتها ، التي كانت ركيزة وقاعدة اساسية في مسيرة الشعب الفلسطيني الكفاحية والنضالية ، وبطلها باسل عبد اللطيف ،المدرس في جامعة بير زيت وخريج جامعتي “بيروت” و”ايوه” الامريكية ، والذي ينحدر من عائلة عريقة ، صاحبة تاريخ نضالي مجيد في مقارعة الحكم الانجليزي والتركي والاردني ، وشخصياتها من الشرائح المثقفة والمتعلمة .
وهي تنقل بصدق الصراع والتناقض الايديولوجي والسياسي والاجتماعي بين الفعاليات النضالية والقوى الوطنية والثورية العاملة والفاعلة في الشارع الفلسطيني ، وكذلك رواية “زغاريد المقاثي” للكاتب الراحل محمد وتد ، التي تدور احداثها في قرية الزبداوي في الضفة الغربية وتروي قصة ابي العبد الذي اغتالته دورية الاحتلال، ونتعرف من خلالها على شخصيات ايجابية كثيرة تنبض بالحياة كابي العبد الذي يعيش خارج الوطن ويتسلح بالفكر الثوري ، وعيوش التي ترى فارس احلامها المنتظر ، وسامح الشاب الواعي الذي يعتقل ويسجن، والشيخ عبد الصبور امام المسجد الذي يشارك في العمل الانتفاضي والنضالي ومقارعة الاحتلال ، وصبرية ابنته التي تمضي في السجن 18 يوماً ، وصابر الذي يقوم بخدمة رجال المقاومة المختبئين في الكهف وغيرهم.وهذه الرواية مفعمة بالالم والحيوية وملأى بالاوصاف الدقيقة المدهشة والفكاهة ، وتتلمس المعاناة والهاجس الفلسطيني . بعد ذلك شهدت الحياة الثقافية الفلسطينية والمشهد القصصي والروائي صدور العديد من الاعمال الروائية لكل من احمد سليمان واحمد درويش ومحمد علي طه واسمهان خلايلة وسواهم. واذا كان احمد درويش في روايته “ذاكرة التراب” يسبر اغوار الماضي ويثير فينا الحنين والوجد لقرانا المهجرة ، ويحيي قصة الترحيل والتهجير والتشبث بالتراب الغالي المقدس ، فان محمد علي طه ، الذي يعد احد فرسان القصة الفلسطينية في الداخل،ينقلنا في روايته”سيرة بني بلوط” الى فترة زمنية محددة عاشها شعبنا الفلسطيني ، هي فترة الحكم الانجليزي للبلاد ، وتتركز موضوعاتها حول ثورة 1936والتيارات السياسية والاجتماعية التي كانت فاعلة في تلك الفترة، وهي رواية تتصف بالعفوية والبساطة والجمالية الفنية .
اما اسمهان خلايلة فتقدم في روايتها “اّخر النفق” قصة من واقع وحياة المجتمع بطلها فاشل في حياته العائلية والاسرية ،وينعكس فشله في طباعه واخلاقه ومسلكياته وتعامله مع ابناء مجتمعه وافراد عائلته. وفي الاجمال، الرواية الفلسطينية في اسرائيل ذات مضامين اجتماعية وسياسية مسحوبة من الواقع المعاش، وقد نجحت في القيام بدورها وواجبها تجاه الارض والوطن والشعب، واستطاعت معالجة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والتعبير عن قضايا جماهيرنا العربية واوضاع شعبنا الفلسطيني في الوطن المحتل.