ياسين الحافظ.. كتاباته لم تنتهِ بوفاته
الكتابة عن ياسين الحافظ لا تنتهي ويجب ألا تنتهي، كما التعريف به واسع ومتعدد الجوانب والمزايا.
يعرفه الياس مرقص «تعريفاً شخصياً» ونثني على هذا التعريف، علاقته به ترجع إلى عام 1953، وعلاقتنا به إلى بداية الستينيات من خلال ما كتب من مقالات، ثم تتواصل مع كتابه «حول بعض قضايا الثورة العربية «1965» وتستمر حتى وفاته، ولا تنتهي بعد الوفاة.
يقول الياس مرقص في تقديمه لكتاب ياسين الأخير «في المسألة القومية الديموقراطية». مع أن إقامتي معه في مدينة واحدة وأحياناً في بيت واحد لم تكن طويلة وعميقة. لكن بيتنا الواحد كان وجداننا، وعينا، عالمنا، العالم، الوطن والشعب. قلما فكرت أو كتبت إلا بالتعاون معه في استجابة وتجاوب.
الوطن عند ياسين وعندنا، هو ذلك الفضاء الذي يجمعه ويجمعنا مع أفراد متنوعين في الانتماءات والأمزجة والسلوك والمصالح لكن الذي يوحدنا شعورنا بالانتماء الشامل للأرض التي نقف عليها ومنها ننطلق للتجمعات الأصغر التي تحدد معتقداتنا وقومياتنا وكل الإثنيات الأخرى، أكثرية كنا أم أقلية.
وطنه سوريا، وأمته العربية، ولم يجد تناقضاً بين وطنيته وقوميته أراد لهما نهجاً علمانياً ديموقراطياً يوحد، ولا يفرق أو يلغي أو يتجاوز وجود الأقلية إلى جانب الأكثرية، طالما كانت عوامل الانتماء للوطن متوفرة. انطلق أولاً من الاعتراف بالعالم الزمني اعترافاً مبدئياً ونهائياً، كما يقول عنه الياس أيضاً. فهم هذا العالم وفهم ضروراته كشرط لتغييره. اعترافه بالإنسان كفرد له حقوق تناسب إنسانيته وأنسنته، واعترافه بالمواطن الذي يقاسمه الوطن مهما كان قريباً منه أو بعيداً عنه في انتمائه أو تفكيره هذا المواطن صاحب الحقوق التي يجب أن ينالها كاملة غير منقوصة لأي سبب، ولا تقبل الاستغلال أو التهميش أو الإقصاء، يتجاوز بمواطنته هذه انتماءه للتشكيلات الأدنى، العائلات والعشائر والطوائف من دون أن تلغيها، وينتمي للمجتمع والدولة التي لم تستطع أن تجد مرتكزاتها في المجتمعات العربية، وبقيت في إطار إيديولوجيا القرية التي تجد صيغتها المعممة في الشكل الذي رسمه لها الملك حسين ملك الأردن (ضيعتنا الأردنية).
الحرب اللبنانية «حرب طائفية قذرة» هكذا سماها ياسين، واختلف حولها مع كل (التقدميين) العرب الذين أعطوها تسميات تقدمية أو طبقية أو قومية. النزعة الطائفية لم تتوقف عند لبنان، بل تجاوزتها إلى كل المجتمعات العربية. تجاهلها السياسيون والمثقفون العرب من مختلف المشارب معتمدين على توحد ظاهري هش لهذه المجتمعات، أزمة مخفية لكنها فاعلة. يقول ياسين في سيرته «كنت أجهل أو أتجاهل كواحد من التيار التقدمي المشرقي، المسألة الطائفية في الوطن العربي، أو أبسطها، وأنظر إليها نظرة وحيدة الجانب، أو بالأحرى أكثروية بشكل ضمني وغير واع. بيد أن الشكل الحاد للصراع الطائفي اللبناني الناتج عن وجود أقليات وأزمات ما لبث أن فرض عليّ إعادة التفكير بالمشكلة ليكشف لي عمقها وتعقيداتها وجذورها التاريخية.
سوريا لها الفعل البارز في السياسة العربية بسبب اندفاع حركتها المبكر بكل خصوصياتها قومية أو دينية أو طائفية أو وطنية أو تقدمية أو برجوازية أو أغنياء أو فقراء، كل الفئات سعت لبناء جنين دولة فيها مؤسسات وأحزاب ومنظمات هدفهم الأول بناء الوطن وتقدمه ونمائه، فيه يتنافسون يختلفون ويتفقون بل ويتصارعون ثم يعودون للدائرة الأولى إلى الوطن. لكن الاستبداد الذي عاجلهم، أسس لنفسه مراكز قوة، كي يبقى فأجهض هذه المحاولة وأعاد الأمور إلى عصر المماليك من جديد وألغى جنين الدولة.
انتقلت سوريا من الديموقراطية التي شهدتها منتصف الخمسينيات على كل علاتها إلى الاستبداد، ضحت بديموقراطيتها هذه من أجل الوحدة إيماناً منها بأن الوحدة سبيل ناجع لتعميق الديموقراطية وتعزيزها، لكن قيادة الوحدة والنخب السياسية التي صنعتها لم تستوعب هذه الفكرة، ولم تستوعب أن استمرارها لن يكون إلا بالديموقراطية التي تحقق المساواة بين المواطنين، وتطلق حرية الأفراد في الرأي والتعبير وحكم المؤسسات وفصل السلطات، وليس بالديكتاتورية وحكم الفرد، مهما تمتع هذا الفرد بصفات القيادة والنيات الوطنية الصادقة.
كان ياسين من أوائل الذين قاوموا هذا الاستبداد ليس بسبب ما تعرض له من اعتقال وإهانة، في ما بعد مع رفاق له عدة، بل لأن هذا الاستبداد كان وبالاً على الأمة وسبب هزائمها. انخرط مع نضال شعبه الذي ذاق عذاب هذا الاستبداد وسبب له الهزائم من هزيمة حزيران 1967 إلى الهزائم الداخلية التي عملت على تفتيت المجتمع ونزع السياسة منه ونهبه ليتناسب مع مقاس الاستبداد ويؤسس لاستمراره.
إن هزيمة حزيران لم تكن بسبب ضعف القوة العسكرية العربية أمام العدو الإسرائيلي بل بسـبب هزـيمة المجـتمع وعزل الشعب عن قضاياه ومنع حرية الرأي، وهيمنة الأنظمة التي بقيت إما أميرية أو ملكية أو عسكرية.
إيمانه بالشعب والوطن والشعب ليس طوباوياً أو شعورياً بل إيمان عميق لأنهم هم الذين يصنعون تاريخهم ومصيرهم، وكان على النخبة العربية أن تلعب دوراً بارزاً في هذا المجال لكنها تقاعست، حيث وجد بعضها في خلاصه الفردي طوق النجاة بينما وجد البعض الآخر في الحاكم ولي نعمته فسخر له قلمه بدل أن يسخره للشعب.
الثورات العربية التي أطلقتها الشعوب العربية بعفويتها كشفت ستر هذا التقاعس، كتل بشرية تنطلق لمواجهة أنظمة الاستبداد وتسقطها، الأنظمة التي طالما أرعبت هذه النخب وفرضت عليها تصالحاً بحيث جعلت من معارضتها مجرد رفع عتب رغم كثرة تضحياتها، لذلك بدا وعي الشعب أعلى بكثير بل لنقل أكثر جرأة من نخبها بكل فصائلها.
بعد هزيمة 5 حزيران فكرة الانتحار راودت ياسين، هكذا قال في سيرته الذاتية. ماذا لو عاش الأزمة السورية ومآسيها ومفرزاتها، ماذا كان سيراوده وبماذا كان سيفكر؟
كاتب من سوريا