الرواية الضاربة… حرير باريكو نموذجاً
على نحو ما توصف الأغنية المنتشرة بـ{الأغنية الضاربة» في الوسط الفني، في الوسط الثقافي نجد «الرواية الضاربة» التي تجعل صاحبها نجماً. وليست الرواية الضاربة هي الأكثر مبيعاً أو انتشاراً فحسب كما هي الحال في «بنات الرياض» لرجاء الصانع أو «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، فأحيانا تكون أقرب إلى «الأسطورة» وقل ما نجدها بين يديّ القارئ كما «عوليس» لجيمس جويس أو «الجبل السحري» لتوماس مان، ومن بين الروايات الضاربة في المرحلة الراهنة «الحرير» للروائي الأيطالي أليساندرو باريكو.
عدا عن صدور رواية «الحرير» في لغات عدة كالفرنسية والأسبانية والإنكليزية، فهي صدرت بالعربية في خمس طبعات أو ترجمات مختلفة، ترجم الأولى منها علي سعد وأصدرتها دار مغمورة في سورية، وكانت الترجمة الثانية لفواز طرابلسي عن دار «المدى»، فيما تولى الثالثة طلعت الشايب عن دار «أفاق الكتابة» ودور أخرى، أما الرابعة فترجمها اسكندر حبش عن دار «الجمل»، والخامسة عن «مؤسسة الانتشار العربي»، فضلاً عن نشر الرواية في مجلة «الثقافة الجديدة» القاهرية. ويحضر باريكو هذه السنة للمرة الأولى إلى لبنان بمناسبة معرض صالون الكتاب الفرنكوفوني، ليتحدث عن تجربته في الكتابة، وعن محترف الكتابة، هذه المدرسة التي يديرها منذ 20 سنة تقريباً، مع توقيعه رواية «الحرير» الصادرة بالفرنسية عام 2010.
على هذا يمكن وصف «الحرير» بالكتاب الضارب الذي حمل صاحبه على أجنحة الشهرة في العالم، فلم يكن باريكو يحظى بكثير من الشهرة قبيل صدور هذا النص الذي جعله أحد الكتاب العالميين، على رغم فوزه سابقاً بجائزة «ميديسيس» عن روايته الأولى «قصور الغضب»، وبزوغ اسمه بعدها في مجالي المسرح والسينما حين كتب مسرحيته «أسطورة 1900» التي تحولت إلى أحد أهم الأفلام الإيطالية الجديدة عام 2008 بعدما كتب له باريكو السيناريو والحوار.
ليست «الحرير» ضاربة في الشهرة والمبيعات فحسب، بل في جوهرها أيضاً، فهي رواية مقتضبة ومكثفة، شعبية وثقافية في الوقت نفسه، قليلة الصفحات لكنها غنية بالأفكار والمعلومات، رواية عصرية بامتياز، يمكن للقارئ أن يحملها في أثناء سفره ويقرأها من دون عناء، أو حتى يمكنه أن يقتنص تفاصيلها خلال جلسة في المقهى. حتى في طريقة تقسيمها تجد الرواية سهلة غير مملة وتشبه التقطيع الموسيقي. وهي إلى حد ما تشبه نمط حياة باريكو المولود في مدينة تورينو عام 1958، والذي مارس في البداية مهنة النقد الموسيقي في مملكة الأوبرا. ونظراً إلى شكله الحسن وذكائه وثقافته وطريقته في الكلام، عُهد إليه بتقديم بعض البرامج التلفزيونية الأدبية، حيث برع فيها. حول بداياته يقول أليساندرو باريكو، إنه لغاية عمر الثلاثين، لم يفعل شيئاً سوى الكتابة: «كتبت كلّ شيء ما عدا الروايات. وخلال كتابتي لجميع هذه الأشياء هذه الأعمال المفترض أنها أعمال ذكية وإن كانت تضجرني، إذ إنها عهر المثقفين، كنت أعرف أنني سأكتب الرواية يوماً ما».
نصوص فانتازيا
وقبل أن يدخل عالم الرواية أو في انتظار ذلك درس باريكو الفلسفة وتابع دروساً في الصحافة، وعمل في عالم النشر حيث كان «يرمّم» نصوص الآخرين، كذلك عمل في الإعلانات والسياسة. يقول: «كنت أكتب بالطلاقة ذاتها بعض النصوص الفانتازية حول محركات البواخر، وبعض المدائح حول الشمبانيا الإيطالية أو حتى بعض خطابات المرشحين للنيابة». أما في اليد الأخرى، فكتب بعض الأدب، ألّف كتاباً عن الموسيقي الكبير روسيني وسيناريو شريط سينمائي أخرجه فارنيللي. وكتب «الحرير» بأسلوب «الموسيقى البيضاء»، أو «موسيقى الحب» التي كانت تقود بطل الرواية هيرفيه جنكور لمرات عدة في العام، إلى السفر من مدينته الصغيرة في جنوب فرنسا، إلى اليابان لجلب دود القزّ لأجل صناعة الحرير، بعدما أصاب مرض دود القز الأوروبي.
«الحرير» ذات الصفحات القليلة يعمل بطلها في مهنة غير مألوفة. وزمن الرواية في عام 1861، إذ كان فلوبير يؤلف «سالامبو»، والكهرباء لا تزال فرضية من الفرضيات، وعبر المحيط، كان ابراهام لنكولن يخوض حرباً لن يشاهد نهايتها. جونكور البالغ من العمر، آنذاك، 32 عاماً يسكن بلدة لافيلديو في الجنوب الفرنسي مع زوجته هيلين، امرأة ممشوقة القوام، تتهادى في مشيتها، لها شعر طويل منسدل دوماً على كتفيها، وصوت غاية في الجمال. ورغم قصر الرواية فهي مكتوبة بأسلوب مكثف ومقتضب يحمل الكثير من المعاني والدلالات والإيماءات، اعتمد المؤلف على الفصول القصيرة التي لا يزيد عدد صفحاتها على صفحة أو اثنتين، وتصل أحياناً إلى جملة وصفية مكونة من بضع كلمات، عبر وصف سريع وبسيط بلغة حيادية مختصرة، ثم حوار موجز للتعبير عما في داخل كل من الشخصيات.
رواية أخرى لباريكو ترجمت إلى العربية هي «بلا دماء» عن دار «ميريت» في القاهرة، لكنها لم تحظ بشهرة «الحرير» ولم تتحول أسطورة. تدور أحداثها في أعقاب حرب ما، في منزل طبيب سابق يدعى روكا كان لمستشفاه أثر ما في مقتل أخ ساليناس (الرجل الذي هاجمه في بيته) وفي هذا الهجوم قتل الأب الطبيب والابن. ونجت الابنة بطريقة ما، لتبدأ حياة غريبة في ما بعد تتمحور حول الانتقام من قاتلي أبيها وأخيها. رواية عن وجهات النظر المختلفة وكيف أن ثمة من يرى «الدماء» ضرورة لإنهاء الحرب، وأن عليك أن تقتل مئة طفل كي يحيا ملايين، مثلاً، وثمة من تدمرت حياتهم بسبب هذه النظرية ومن بينهم البطلة، نينا.
أما رواية باريكو «هذه القصة» فلا ندري إن كانت صدرت بالعربية، وفيها يعود إلى طفولته ليستسقي منها شغف عالم السيارات في إطار ملحمي عصري. ينسج باريكو خيوط حلم بطله «أولتيمو» الصغير الذي ولد مع بداية اكتشاف السيارات وسعى حياته كلها الى بناء ميدان سباق للسيارات السريعة: «السيارات تسير على الطرقات والطرقات تسير نحو العالم».
وعن حلم «أولتيمو» قال: «يعيش الناس سنوات كثيرة، لكن في الواقع هم ليسوا أحياء إلا حين يحققون ما ولدوا لأجله…»، وهو يرسم حدود الرواية كما حدود السيارة حين تنطلق: «أن تختار هذه السيارة، هذه الرائعة (…)، ثم تخطفها من العالم لتصير لك (…). إنها الحركة الوحيدة التي تذيب الزمان والمكان، إنها يد الإنسان فوق المقود الذي يعيد رسم أثر الطريق (…). تنطلق ثم تعود، ثم تدور حول نفسك في السيارة، وتدور وتدور إلى أن تغيب المنعطفات كافة في لحظة وفي حركة حتى تجد نفسك في المكان نفسه الذي يختفي تلقائياً في ذاته حينها. يتراءى لك أنك في دائرة كاملة، مقفلة ومتكاملة ورائعة… الحياة كلها داخل هذه الدائرة».