مــاذا يجــري فــي مصــر اليــوم؟
لن تُقطع الإنترنت أو خطوط الاتصال عن ميدان التحرير اليوم، أو في أي يوم آخر. على الأقل، هكذا وعد مدير إحدى شركات الاتصالات البارزة في مصر، واعداً بالاستقالة إن تعرّض لضغوط تفرض قطعها.
ولن يكون من «العادي» أن يسقط شهيدٌ في الميدان على أيدي «الأمن» المصري، على الأقل هذا ما أوحت به أخبار الصحف الصادرة في اليوم التالي لتظاهرة الثلاثاء الماضي، ناقلة بحث وزارة الصحة عن آخر رمق للمصاب الغارق في الغيبوبة.. «نجيب دخل الغيبوبة لكنه على قيد الحياة»، قال بيانها، كمن يتنفّس الصعداء.
كذلك، لن يكون من الصعب على أي جاهل بأسباب الأحداث الراهنة المصرية أن يستوقف امرأة أو رجلاً في الشارع، ليستفهم منه عما يجري. الجميع يعرفون. الرئيس محمد مرسي يسعى لأن يصبح فرعوناً.. أو، إنها المؤامرة على الرئيس.
باتت لسؤال المؤامرة إجابة، وقد قدّمها الشاب المصري ببساطة: «معلش يا افندم، التعامل مع المؤامرات هو جزء من مهمات أيّ رئيس».
المهم.. في شوارع المحروسة، لم يعد إسقاط النظام حدثاً استثنائيا، وإنما بات حقاً مكتسباً.
مرسي مباركاً
الكلام على التلفزيون عالي النبرة. قضاة مصر صنعوا مشهداً مؤسساً. في الشارع أيضاً، لا يخشون الكلام، ولا يخفضون الصوت. وعد الرئيس عشرات الوعود، ولم يف بأي منها. يجهّز دستوراً للبلاد، تحتكره أقلام «أهله وعشيرته». اقتصادياً، كأنه ليس هنا، المزيد من الأزمات لا أكثر. الحال الشبيهة تنسحب على مستوى أمن المواطن اليومي، في صيانة القطارات مثلاً. لا تظهر على رئاسة مصر معالم التغيير الواضحة في وجوه ناسها. يراكمون ضده النقاط، كأي رئيس آخر كان سيشغل هذا المنصب، الآن. موظف، وليس نبياً. موقت، لا يوقف الزمن باسمه شخصياً، أو يملأه لاحقاً باسم آخر من أسماء «أهله وعشيرته». وبقوا يغضبون بصبر، إلى أن خرج عليهم برداء البطولة الذي ألقي على كتفيه سياسياً في غزّة، ليصدر قراراً، يسمّيه دستورياً، يحصّن فيه قراراته من أي اعتراض أو نقاش أو نقض، فيكون في الرئاسة تماماً كما المرشد في الجماعة. وهم يعرفون. هم يعرفون أن المرشد هو رئيس الرئيس.. وهو المحصّن.
عندما يخرج الملايين من بيوتهم، وسوف يخرجون مجدداً اليوم، ليدافعوا عن استقلالية القضاء، وليؤكدوا خضوع الرئيس للقضاء وليس العكس، فإن الصورة تخبر عن شعب يؤمن بالقانون، رهانه الأخير والضمني على العدالة.
حُكموا بالظلم، ولم يعتادوه. إلا ان الرئيس الجديد اعتاده. اعتاد أن يمتلك أي رئيس السلطة المطلقة. اعتاد أن يكون الحكم في مصلحة بعض ضد بعض، أن ينقسم الناس بين مؤيدين أخيار ومعارضين مخربين كما «السوس». اعتاد أن يكون الرئيس إلهاً، أكان حسني مباركاً أم مرشداً وحيه ماورائي. يقول المواطن المصري: معارض مبارك كان عميلاً، ومعارض مرسي أصبح كافراً. وجهان لعملة واحدة، تطرد المواطن من دوره، لتنفيه إلى صفة الخروج عن المبدأ المؤسس، أكان الانتماء إلى الوطن أم الإيمان بإله.
مصر تغيّرت كثيراً عن حالها قبل ثورة يناير، لكنها في مسيرتها المستمرة تكاد لا تنتبه إلى ذلك.
وكذلك الرئيس، يشعر بالتغيير، فقد خرج من السجن إلى كرسي الرئاسة، من منع الوجود إلى صلب الصورة الرسمية، من المفاوضة والمساومة إلى امتلاك السلطة.. هو يشعر بالتغيير، وكذلك مرشده. فقد سقط مبارك، وباتا هما: مبارك. وهذه المرة، «لن يسقطنا أحد». فمصر ليست تونس.. ومصر وتونس ليستا ليبيا.. ومصر وتونس وليبيا ليست سوريا.
متشابهون في مواقع مختلفة..
«بكرا وبعده»
المستقبل ليس واضحاً. المطلب إسقاط الحصانة التي منحها الرئيس لنفسه، وحماية استقلالية القضاء، وحلّ الهيئة التي تكتب الدستور بعدما انسحبت منها القوى السياسية والمدنية والمرجعيات الدينية الرسمية، وبقيت حكراً على الإسلاميين … المطالب واضحة، لكن المستقبل ليس كذلك. وتلك حال جديدة علينا. وكونها جديدة يجعلها مصدر قلق للبعض. لكن، كونها جديدة هو تحديداً مربض الأمل. فهي ليست المعروف الآمن المكرر، الذي حقق نسبة أميّة تفوق الأربعين في المئة بين ناس المحروسة. هي شيء آخر، يُتوقّع من اليوم أن يساهم في صناعته.
اليوم، يناقشون. لم يجدوا أنفسهم في الصورة التي أرساها «الاخوان» عن الحياة ودستورها. لم يتعرفوا إلى ملامحهم في «أهلي وعشيرتي»، فصنعوها صارخةً في الميدان: شعب ودولة وقانون وعدالة. لا مكان لنبيّ في هذه المعادلة، وإنما لرئيس. لكن الرئيس الموظف، لا مكان له في هرمية «الاخوان»، ولن يكون مقبولاً بين «الأهل والعشيرة». لذلك، لا أحد يعرف الغد، لكنهم يعرفون الإصرار على المشاركة في صناعته.
لذلك، يكون موقع «الفلول» محفوظاً في الميدان. فهم جزء من الشعب، والشعب لا يسقط مع سقوط الرئيس. هم مواطنون، لم تسقط مواطنتهم بسقوط مبارك. وإن أرادوه فلوجهة نظر، وإن كرهوا التغيير فلوجهة نظر، وهم اليوم يقفون أمام رعبهم الأساسي: «الاخوان».. يواجهونه كما العلاج النفسي.
إن تواجد الفلول في الميدان هو دليل عافية في مشهد الميدان. وغداً، عندما تتبدل فصول القصة، وعندما ترتدي عناوين جديدة، سيكون في الميدان شبابٌ «اخوان»، يجاورون الفلول وسواهم. من المطمئن أن تتسع ساحات الشعب لأكثر مما يتسع له «صدر» الرئيس، وأن يكون الميدان لكل الشعب عندما يخصّ الرئيس بخطابه «أهلاً وعشيرة»، وأن تختلف وجهات النظر بين مواطنين، فلا ينكر بعضهم بعضاً بتهم تهدر الدم.. وفي ذلك مكمن أمل.
«المنتخَب»
«لكنهم انتخبوه!»، يقول البعض، تخوفاً من أن تكون الثورة قد أصبحت عادةً وليست حاجة (!). وفعلاً، هو منتخب. وتُسمّى الأصوات التي صنعته رئيساً «أصوات الكراهية». كراهية النظام السابق، ممثلاً بمنافسه حينها الضابط أحمد شفيق. وليس ذلك مهماً. فليكن منتخباً فحسب، بلا قصة، بلا سياق. فلتبدأ القصة من لحظة الانتخاب، وليُنظر إلى التتمة. إذ ان الانتخاب ليس حدثاً لاغياً للزمن الذي يليه، وإنما هو حدثه الأول. وتلك هي قصة مرسي: انتخب بناء على عشرات الوعود الجوهرية الحيوية الأساسية التي دفع أكثر من ألف شاب مصري ثمنها من دمه، فلم يصن أياً منها، وإنما فعل عكسها تماماً، فبدأت المطالبة بإسقاطه قبل أن يصبح نهجه دستوراً.
أن يُطالب بإسقاطك لأنك بت تحمل فيك بعضاً أساسياً من أسباب «كراهية» منافسك.
اليوم، سيخرج أصحاب هذا القول لقوله. وغداً السبت، سيخرج مريدو «الجماعة» لصون حقها في تحصين نفسها. جميعهم سيتكلمون باسم الثورة. وبعد غد، قد تحصل مواجهات. البعض هنا يخاف من مواجهات حارقة. فالرئيس يصعّد. الرئيس لم ينصت لقضاة مصر، ولا لملايين الميادين. استعجل في الانتهاء من صياغة الدستور أمس الأول، ليضعه في أقرب وقت ممكن للتصويت في استفتاء شعبي. لم ينصت للمطالبة بحلّ الهيئة التأسيسية للدستور بعدما فقدت معظم أعضائها الذين استقالوا اعتراضاً، وليس سأماً. الرئيس يصعّد، ومعارضوه.. معارضوه لا تبدو عليهم ملامح التراجع. وقفوا في وجه مبارك، ولن يسجدوا لمرسي. وها هي القيادات السياسية والنقابية والعـــمالية تواكبهم هذه المرة. واليوم، في الميدان، سيحمل كل وجه قصــة، وسترفع كل يد قولها مكتوباً.. والقــصة لا تزال في بداياتها.
لا أحد هنا يتوهم أن كتابة القصة ســتكون نزهة صيفية. لكن أحداً هنــا لا يتوهم أيضاً أن الحياة يمكن أن تعود بعقاربها إلى الانسحاق تحت قدمي «نبيّ محصّن»، بعد عقود من الانسحاق تحت قدمي «الرئيس القائد
».