الحراك المصري وخلط الأوراق
هل يمكن القول ببساطة أي الجانبين محق، وأيهما مخطيء؟ أزعم أن الإدعاء بالإجابة القاطعة ليس إلا محض مكابرة، أو في الأقل أمر يتسم بمزيد من الخفة في إعطاء الأحكام السهلة في قضية ترتدي كل هذا الكم من التعقيد. الأخوان وحلفاؤهم يزعمون أنهم ضحايا هجوم مخطط له، وبأيدي يشيرون إلى أنها أجنبية ، ويدعون أن كل القتلى من جانب واحد ( الأخوان) ، رغم أن بين القتلى ( جورج) !،
ثم أن الإعتداء بدء حينما هاجمت جماعة من الملتحين خيم الإعتصام، ومزقتها، وإنهالت على المعتصمين بالضرب الشديد على مرأى من الإعلام وعدسات الكاميرات، ولعل إعتصام الملتحين السلفيين أمام (الماسبيرو) وترديد العبارات المقذعة بحق العاملين بوسائل الإعلام، والإنهيال بالأحذية على صور الإعلاميين والإعلاميات المخالفين للإتجاه الإسلامي السياسي، والتهديد والوعيد الذي وصل إلى حد الدعوة للسحق، أمر لا يمكن إلا أن يصيب حتى البسطاء من الناس بالذعر، والخشية مما يمكن أن يحدث على أيدي هؤلاء فيما لو أنهم تحكموا بكل مفاصل الدولة، ولا أعتقد أن هذه المشاهد لم يكن لها تأثير على دفع الناس وبهذه الأعداد الغفيرة إلى محاصرة (الإتحادية)،
لقد حشدت مثل هذه التصرفات الناس للوقوف بوجه الظلامية والتخلف، ومن أجل دولة مدنية يطمئن لها كل مصري، ويشعر بالإنتماء لهأ.
هل يمكن الجزم بأن كل الإعتداءات كانت من الجانب الإسلامي، أو المحسوبين عليه؟ إذا كان الأمر كذلك فمن أحرق العشرات من مقرات الأخوان وحزب الحرية والعدالة؟ ولماذا تُحرق هذه المقرات أصلاً؟ وهل يمكن لمن يدعي الإيمان بالديمقراطية القيام بهذا العمل الهمجي؟ ثم إلى أين ستمضي مصر لو أن جماعة الإخوان ومؤيديهم قاموا بإحراق مقرات أحزاب المعارضة ؟ قوى المعارضة تدعي أنها ليست من قام بإحراق هذه المقرات؟ يمكن تصديق هذا القول ، بناءاً على طبيعة توجهات هذه القوى ؟ ولكن يمكن تصديق ما يدعيه الإخوان من انهم لم يعتدوا على أحد، وإنهم يدعون إلى أمر ربهم بالحسنى، وبناءاً على طبيعة توجات هؤلاء أيضاً، فمن ذا بمقدوره الزعم أن الذين يريدون التمسك بشرع الله، يقومون بالإعتداء على الناس بمثل هذه الوحشية ؟ هل يوجد طرف ثالث دخل بين الطرفين، وقام بما قام به؟ أمر يصعب نفيه، ولكن ينبغي الإقرار باديء ذي بدء أن هذا الطرف الثالث موجود أصلا بين الطرفين، وهو يفعل فعله عندما يصل الإستقطاب إلى الذروة. ينبغي القول للطرفين: الطرف الثالث بينكم، إبحثوا عن المتطرفين، إنهم من قام بقتل الإبرياء، وحرق المقرات، ولا تهم التسمية، وعبثا البحث إن كان من فعل هذا ملتح بزبيبة أم حليق اللحية بجبين ناصع.
نعم ما بين الأخوان والمعارضة فلول، وموساد، ومخابرات أجنبية، ومخربين من كل لون وصنف، ولكن هناك مصلحة مصر أولا وآخراً، وهذا ما ينبغي أن لا يتجاهله أي طرف من الطرفين المتخاصمين .
ليس المستهدف الآن الإخوان أو هيمنتهم على الدولة، ولا القوى المدنية المعارضة، فهؤلاء وسائل يتم النفاذ من خلالها وعبرها.. المستهدف دور مصر .. أين تكون مصر ؟ .. ذلكم هو السؤال البالغ الأهمية .. ليس صدفة أن تكون مصر في قلب العالم العربي، في الصدر من النسر العربي، الذي أريد له أن لا يحلّق، أن يبقى نقشاً على جدار، أو شعار
. ولم يقيّض لمصرنا هذه أن تقوم بدورها إلا عهد الراحل الكبير جمال عبد الناصر، وقتها كانت مصر زعيمة الأمة بحق، ورائدة التحرر في آسيا وافريقيا، وقائدة وزعيمة لحركة عدم الإنحياز ، إذا تكلم قائدها سمعه العرب من الأطلسي حتى الخليج، كانوا يسمعونه إن كانوا معه أم ضده.
هناك بين العرب من يعمل لكي تتبوء مصر دورها الذي تستحقه، وهناك من لا يريد لها أن تلعب هذا الدور، حتى لو كانت مصر بقيادة إخوانية ( لا راديكالية، ولا قومية) وإنما محافظة وبسمات رجعية لا تختلف عن أنظمة المنطقة .
السعودية ليست ضد التوجه المحافظ في مصر، لكنها ضد أن تكون مصر زعيمة التوجه الإسلاموي، حيث يمكن أن يُسحب البساط من تحتها، وتفقد موقعها كقائدة ( ذات باع بترودولاري).
هي لا تريد أن يكون دورها ثانوياً، ولا تريد أن تكون ظلاً، فإذا عرفنا أن مصر تملك الأزهر، مع جيش عرمرم، من المثقفين الإسلاميين، أصحاب الشهادات العليا في كل الإختصاصات، والمؤهلين أكثر من زملائهم السعوديين للحديث عن الإسلام المعتدل، ويمتلكون قدراً من الصدقية والإقناع، وبعد التفاهمات مع الأمريكان، وهو ما يخيف السعودية أكثر، تبين لنا حجم المخاطر التي تتهدد الهيمنة السعودية في هذا المجال الذي إعتبرته حكراً لها. ولهذا فللسعودية مصلحة أكيدة لا في إسقاط الإخوان، ونجاح الليبراليين، وإنما في إضعاف الإخوان، للدرجة التي تدفعهم للدخول مضطرين تحت العباءة السعودية، ومهادنة الوهابية، الممثلة بفرق السلفية المتشددة، وصولا إلى الخروج من عباءة التنظيم العالمي، وبالأخص قطر والقرضاوي، ولكن هذا الأمر يبدو صعباً إن لم يكن مُتعذراً، لأنه يعني أن إخوان مصر سيغيرون جلدهم، في حين أنهم يطمحون بعد سيطرتهم على مقاليد الحكم في مصر إلى قيادة العالم العربي، والإسلامي، وهم يعتقدون أنهم مهيؤون لمثل هذا الدور، تنظيمياً وعددياً.
موقف تركيا لا يختلف عن موقف السعودية إلا بالتفاصيل، فتركيا الناتو، هي أول من عرض تجربة ديمقراطية وسطية للإسلام، مختلفة عن تجربة إيران الراديكالية، بغض النظر عن البعد الطائفي، الذي لا إعتبار له عملياً إلا في إطار التحشيد، والتهييج الذي يستهدف أغراض سياسية تلبس لبوساً طائفياً.
تركيا هذه التي تسمى التنظيم السياسي للأخوان بإسم حزبها ( الحرية والعدالة ) ، ليست متماهية مع إخوان مصر، ولا إخوان مصر متماهين معها، فتركيا الحرية والعدالة بقيادة أردوغان تطمح إلى إعادة بريق العثمانية في محيطها الطبيعي الذي تجاهلته قرابة القرن، ثم تفطنت إلى أهميته بعد أن يئست من إمكانية قبول أوربا لها ضمن نسيجها المختلف، تركيا هذه مع مصر بالصبغة الإسلامية، ولكن التابعة لا المتبوعة، ومصر أكبر من أن تكون تابعة، حتى في قمة صعود الإمبراطورية العثمانية، أبت مصر (محمد علي) إلا أن تكون مستقلة عن هيمنة الدولة العثمانية، وقائدة في محيطها. والسؤال المهم هنا، من سيتبع من؟ و ما هي حدود التعاون والتفاهمات بين تركيا التي لم تحافظ على بريقها ودورها، ومصر التي تبحث عن دور يليق بها.
مصير إردوغان وحزب الحرية والعدالة التركي يتوقف على نتيجة الأحداث في سوريا، ومصير مرسي وحزب الحرية والعدالة المصري، يتوقف على نتيجة الأحدث في ميدان التحرير وميادين مصر وشوارعها. أحدهما، بعد أن إطمئن للداخل، أراد مدّ نفوذه خارج البلد، فاصطدم بعقبات، ربما لن يخرج منها سالماً، والآخر، أراد بروح من المغالبة بسط نفوذه داخل البلد، فاصطدم بمجتمع عرف طريقه للمياديين، وتذوق طعم الحرية بعد عقود من الحرمان، وبدا أكبر من توقعات البعض، وأكثر تمسكاً بحريته وبمدنية الدولة من أكثر التقديرات تفاؤلا.
من يهمس في إذن أردوغان بأن اللعب مع الأمم والشعوب، وإن كانت مقادة من ديكتاتوريين، ليس كاللعب مع الحزب الجمهوري، وبلدية إستنبول. ومن يهمس بإذن مرسي بأن شرع الله لا يفرضه مخلوق على خلق الله، لأن هذا المخلوق لا يفرض شرع الله، وإنما فهمه أو فهم جماعته لهذا الشرع، الذي يظل شرعه وشرعهم ، لا شرع الله .