ريلكه .. انغماس روحي في الفلسفة الكيركجادية
يمكن تقديم التجربة الشعرية للشاعر الألماني (رينيه ماريا ريلكه) على أساس مؤثرين مهمين كانا لهما الأثر في بنائه الشعري وتكوين موجوداته.
فالمؤثر الأول هو سفره إلى روسيا وملازمته لتولستوي وما أفرزت هذه الملازمة من تأثره بالحياة الصوفية المتدينة لدى الشعب الروسي حيث انعكس ذلك على نظرته للكون والإيمان بالخالق وتقديسه، وقد تناول هذا الحب وهذا التقديس في العديد من قصائده في تلك المرحلة كما أعطت دراسته للفن ولتاريخ الأدب لتوجهاته الشعرية تلك الصياغة الدقيقة لأسلوبه في تناول الموضوعات الكونية والموضوعات الوجدانية ولاشك أن سماته الشخصية ومنها انطوائيته وحساسيته المفرطة تجاه الأشياء منذ ريعان شبابه جعلته مهيئا لقبول ذلك التوتر الصوفي ليتنقل ما بين أزماته النفسية والتي فتحت أمامه آفاقا رحبة الى عالم الشعر المرعب ليلجأ إلى السر الغامض في اللغة ضمن جودة الانفعالات النفسية التي تنتابه من حين لآخر، ولاشك حين نقرأه، نقرأ تشاؤمه المعلن ومطالب العون التي يرددها أمام الخالق، وهو لا يرجو أن تتحول قصائده الى أدعية بقدر ما أن يكتشف بها ذلك السر الذي يريد هو خلقه ثم اكتشافه وهو يعتقد أن ذلك ليس بالعسير.
مادام الكون حافلا بنقيضين هما الوحشة والغموض ونقيضهما الوضوح والأمل، فإن ريلكه ضمن اتجاه تأثره الصوفي لم ينغمس بهذا الشكل كمكون خلاصي لما يريد بل خرج من هذا المفهوم بالنزوع نحو لغة صوفية جديدة تبدو وكأنها خارج حدود اللغة الدينية رغم تكراره لمخاطبة الخالق، فالنداء هنا لم يكن نداء من أجل الوحدانية وطلب الشفاء الشخصي والتعويض عن آلامه ومآسية بل أن نصوصه كانت تمر عبر ما تحتاجه الكائنات الحية لاستمرارية وجودها ضمن ما استطاع نسجه من صور مغرية وألحان سمعية صورية في مجمل حركة قصائده، في هذا الاتجاه يشعر القارئ إن ما كتب في تلك المرحلة يؤكد بأن ريلكه قد تأثر بنسيم الصوفية ولم يلبس رداءها ولم يعتكف في لغة خاصة أو مشاهد تدينية.
وقراءة “يوم من أيام الخريف” تكشف ذلك الأثر الحساس الذي خلقة من طبيعة تجربته تلك:
ربي ..
الصيف كان عظيما
ألق ظلك على الساعات الشمسية
وأطلق ريحك فوق المراعي
مر الثمار الأخيرة أن تنضج
أعطها يومين آخرين من أيام الجنوب
حثها على الكمال
وسق العذوبة الأخيرة في النبيذ الثقيل
وهناك أمثلة أخرى لإكتشاف ما يحتاج اليه شعره من تجربته الصوفية تلك، ولعلها ذلك الإندماج الذاتي والذوبان حد التسامي مع الصور المختارة إضافة إلى حسن استخدام توزيع المؤثرات الدلالية في لغة متأنية لكنها تتمتع بالإثارة والحيرة:
ماذا تفعل بي يا ربي حين أموت ..؟
أنا جرتك (ماذا لو انكسرت)
أنا شرابك (ماذا لو فسدت)
أنا ثوبك وحرفتك
بقدي يضيع معناك
سيسقط من قدميك
الصندل القطيفي
الذي هو أنا
والى مرحلة أخرى من مراحله الشعرية يتقدم ريلكه نحو المؤثر الآخر كان ذلك بعد أن مر بأزمة نفسية قاتلة اتجهت به إلى التمعن بالفلسفة (الكيركجاردية) فقد قرأ كيركجارد وانغمست روحه في تلك القراءات حد القناعة بها، تلك القناعة التي لا تتفق مع ما آمن به من المنطلقات الصوفية ولم يكن أمامه من بديل إلا أن يتخلى عن وجهات نظره في الكون والخالق.
هذه النقلة في الأفكار لا بد أن تنقل معها تماسه الشعري الجديد مما بدا له تغيرا شاملا في استخداماته لبنائه الشعري الذي وجد بأنه يستند الى معالجات أخرى لقضية الكون تكون الأنا فيها حاجة مركزية ولا شيء غير الذات، ولعل ذلك الإقتراب من الفكر الوجودي قد هيأ للشاعر ما يريد قوله ضمن أزماته النفسية العسيرة أو على أقل تقدير شعوره بدنو أجله وجزعه من مفاهيم الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
هذه المرة تمسك بالغموض الذي لم يجد له نقيضا كما وجد له نقيضا في تجربته الصوفية وتمسك بالوحشة وأيضا لم يجد لها نقيضا مثلما وجده في تجربته الصوفية لتكتسي قصائده بتلك الشحنات العنيفة التي لا تعير أهمية لا للشكل ولا للمضمون، اتخذ هذا الأسلوب الجديد ليثري به حركة الشعر الجديد ليصل باللغة إلى مناطقها السرية تلك المناطق التي يتمتع بها الخيال بحرية كاملة فكانت المخيلة تنتج المخيف من الصور التي يشد بعضها البعض لخلق مناطق أكثر توترا وضبابية أمام القارئ والوقوف أمام ما كتب في (مراثي دوينو) أو في (أناشيد أورفيوس).
يمكن الإقرار بأن تجربته الشعرية كانت من ضمن التجارب الفريدة التي قدم بها ما استطاع من عاطفة ساخرة تجاه مصير غير مستقر على أبواب موت:
كل الذين يبحثون عنك يغرونك
والذين يجدونك هكذا يقيدونك
أما أنا
فأريد أن أفهمك
كما تفهمك الأرض
مع نضجي
تنضج مملكتك
لاشك أن في حياة ريلكه جوانب أخرى كثيرة لكنها بتقديرنا لم تشكل له ذات أهمية قصوى في التأثير على مجريات همه الإبداعي ومنها تجواله في شمال أفريقيا ومصر وأسبانيا سوى تلك السنة 1911 / 1912 التي أقام بها في قصر دوينو وكتب المراثي التي سبق وأشرنا اليها واستمر على حياة الترحال واستضافات الأمراء له في قصورهم إلى حين وفاته بمرض اللوكيميا بعد أن ترك منجزه الإبداعي وصوتا مؤثرا في حركة الحداثة الجديدة.