النسخة الفلسطينية من غاي فوكس

بينما عمدت الصحافة الإسرائيلية والعربية في نهاية الأسبوع الماضي إلى الإشادة بعباس أو مهاجمته، لم أستطع تجنب التفكير بأن عباس (مثل فوكس) سيكون محكوماً بالفشل تاريخياً ولن نعرف مطلقاً ما كان يريده أو سبب سلوكه بهذه الطريقة.

 

إنه يوم غاي فوكس الذي يستذكر المخطط الذي نفذته مجموعة من الكاثوليك الإنكليز لتفجير مجالس البرلمان إلى جانب الملك جيمس الأول، فتم إحباط ذلك المخطط في 5 نوفمبر 1605 حين قُبض على فوكس مع شحنة من البارود في منطقة ويستمنستر، ومنذ ذلك الحين، أصبح فوكس خائناً للوطن ويعمد طلاب المدارس الإنكليز إلى حرق صوره في تاريخ 5 نوفمبر من كل سنة.

تكمن المفارقة في واقع أن فوكس كان المخطط الوحيد الذي بقي اسمه خالداً، ولكنه لم يكن زعيم أي جماعة ولا العقل المدبر لأي عملية. اعتبرت أنطونيا فرايزر في أحد كتبي المفضلة “إيمان وخيانة” (Faith and Treason) أن فوكس كان ضحية جماعة من المتآمرين الذين استغلوه، إذ لم يكن فوكس شخصاً بريئاً اكتفى بالتفرج على الوضع، لكن تلاعبت به شخصيات وقوى لم يتمكن من مجابهتها، فأصبح الوجه الخالد الذي يجسد مخططاً مميتاً تورط فيه، وبالنسبة إلى البعض، فوكس هو إرهابي خطير، لكن بالنسبة إلى البعض الآخر، هو كبش محرقة يسيء الجميع فهمه وقد انقلب الوضع ضده دون سواه.

لم أستطع تجنب التفكير بتاريخ غاي فوكس المرير هذا الأسبوع خلال رصد تعليقات الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي تحدث عن موضوع حق عودة الفلسطينيين إلى منازلهم السابقة وفق اتفاق سلام مع إسرائيل. قد يكون حق العودة من أكثر المسائل الشائكة في الأزمة الحاصلة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إذ يشير توصيف الفلسطينيين بكلمة “لاجئين” إلى أنهم سيعودون يوماً من حيث أتوا، وفي المقابل، لا تفهم إسرائيل السبب الذي يدعو الفلسطينيين إلى العودة إلى إسرائيل بعد تشكيل دولة فلسطينية منفصلة.

في مقابلة مع القناة الإسرائيلية الثانية في نهاية هذا الأسبوع، أعلن عباس أنه لا ينوي العودة إلى صفد، البلدة الفلسطينة-الإسرائيلية الشمالية حيث وُلد، فاعتبر الكثيرون أن ذلك التصريح يعني أن عباس يتنازل عن حق العودة. سبب هذا التصريح سخطاً عارماً بين الفلسطينيين، فسارعت “حماس” إلى اعتبار عباس خائناً، ما دفعه إلى سحب ما قاله، فأوضح أنه كان يتحدث عن نفسه فقط وأن أحداً لا يستطيع التنازل عن حق عودة الشعب الفلسطيني.

خلال يوم واحد، منح عباس اليسار الإسرائيلي الحجة اللازمة لمهاجمة اليمين الإسرائيلي قبل أن يعود ويضع حجة مماثلة بيد اليمينيين كي يهاجموا اليساريين. لا شك أن تلك الاستراتيجية لم تكن مقصودة، بل كانت تلك المواقف مجرد تصريحات متخبطة لرجل يتقاذفه الجميع، لكن لا فكرة لديه عما يريده وما يرغب في تحقيقه على أرض الواقع.

يبدو أن عباس هو النسخة الفلسطينية من غاي فوكس، إذ يعتبره اليمين الإسرائيلي وريث ياسر عرفات لأنه يتخذ مواقف مزدوجة بينما يعتبره اليسار الإسرائيلي زعيماً فلسطينياً يريد تحقيق السلام بصدق، ولكنه سيلقى مصيراً تاريخياً سيئاً بسبب مواقفه الحقيقية. ثمة جوانب صحيحة في هذين الموقفين من عباس، فيصعب اعتباره رجل سلام لأنه أعدّ أطروحته عن “العلاقة السرية” بين الصهيونية والنازيين، ولأنه لم يردّ رسمياً على عرض السلام الذي اقترحه إيهود أولمرت، ولأنه قلل من شأن علاقة اليهود بأرض إسرائيل.

على صعيد آخر، اعترف عباس (على عكس حركة “حماس”) بكيان إسرائيل داخل حدود عام 1967 والتزم بشكل متكرر بعقد المفاوضات (مع أنها لم تكن مجدية)، وقد أدان في نهاية الأسبوع الماضي الاعتداءات الصاروخية التي أطلقتها “حماس” ضد المدنيين الإسرائيليين، واعتبرها غير مبررة بأي شكل.

يبدو أن عباس ليس واثقاً من المقاربة التي يريد تطبيقها وهو يتأثر دوماً بقوى أكثر نفوذاً منه، فيجب أن يبدو معتدلاً لضمان الحصول على تنازلات من إسرائيل واستمرار تدفق الأموال من الجهات المانحة في الولايات المتحدة وأوروبا، وهو يصر على أن السلطة الفلسطينية تختلف عن “حماس” لأنها تدين أعمال العنف رسمياً وتتفاوض مع إسرائيل وفق شروط اتفاقيات أوسلو، وفي الوقت نفسه، يجب أن يحافظ على مصداقيته بين الفلسطينيين ولا يمكن أن يبدو كدمية في يد الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن يجب ألا ننسى أنه يحارب أفعال حركة “حماس” التي تُعتبر أكثر تطرفاً منه وتُجبره على اتخاذ مواقف وتصريحات عن ضرورة مقاومة إسرائيل، وبغض النظر عما يفعله عباس، يبدو أنه محكوم بالفشل.

لا يعني ذلك التقليل من قيمة عباس أو اعتبار أنه يفتقر إلى النفوذ الكافي للسيطرة على أفعاله وتصريحاته، لكن تعني القيادة اتخاذ موقف حاسم، ومن ناحية معينة، بدا عباس مستعداً لدعم السلام أكثر من سلفه ياسر عرفات، لكن بقيت مواقفه مخيبة للآمال على مستويات عدة. صحيح أن القادة الإسرائيليين كانوا يصعّبون موقفه، لكن من الواضح أيضاً أنه أضعف مكانته من خلال الإدلاء بتصريحات انهزامية مثل رفض التفاوض في ظل غياب شروط مسبقة.

لقد حاصرته بعض القوى السياسية البنيوية، ولكنه كان زعيماً ضعيفاً ولم يستفد من الفرص التي سنحت له، وبينما عمدت الصحافة الإسرائيلية والعربية في نهاية الأسبوع الماضي إلى الإشادة بعباس أو مهاجمته، لم أستطع تجنب التفكير بأن عباس (مثل فوكس) سيكون محكوماً بالفشل تاريخياً ولن نعرف مطلقاً ما كان يريده أو سبب سلوكه بهذه الطريقة

.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *