النأي بالنفس خير للبنان من تصدير “المسماة” ثورة
هناك في البلد الذي كان يوماً سويسرا الشرق،قبل أن يصبح رقعة شطرنج تتبارز عليها كل القوى التي ترى فيه مكسر عصا منذ سبعينات القرن الماضي ،وبعد أن أتت الحرب الأهلية لتحوله إلى دولة الدويلات والطوائف..هناك حيث اعتلى أمراء الحرب منابر التنظير وباتوا بقدرة قادر قادة وسياسيين ومنظرين ومسوقين للفضيلة والقيم ..والأنكى..مروجون للتاريخ وعبره،التاريخ الذي يكتبه المنتصر ويخطه وفق هواه مقابل الخاسر الذي يختار أحد مرين لاثالث لهما إما أن يكون شاهد زور هامشي أو مفعول به لتسويق رؤية القوي،هناك حيث قال الراحل الكبير غسان تويني يوماً على إحدى الفضائيات:
ماذا نرجوا من طبقة سياسية أنتجتها الحرب الأهلية؟.
لا أحد ينكر أن جريمة تفجير حي الأشرفية في شرق بيروت،والتي راح ضحيتها رئيس فرع المعلومات وسام الحسن ومرافقه وشابة لبنانية فضلاً عن عشرات الجرحى،هي عمل إرهابي وحشي بكل المقاييس خاصة أنها طالت هذه المرة بنك المعلومات اللبنانية وبحر أسراره،وأعادت حادثة “الأشرفية” إلى الأذهان سلسلة من التفجيرات منذ اغتيال بشير الجميل الرئيس اللبناني قبل استلام منصبه بأيام في العام 1982 ،والذي صادف أن كان مكان الانفجار الذي استهدف وسام الحسن يبعد 20 متراً عن مكان التفجير الذي استهدف مقر “الكتائب” بعد 3 عقود. وقس على ذلك اغتيال رفيق الحريري ومجموعة ثانية بين 2005-2008.
*** لا تستطيع قوة في الدنيا أن تحجب لبنان عن التأثر بالأحداث الدائرة في سوريا،فوجوه الشبه بين البلدين المتجاورين بقوة التاريخ والجغرافية أكبر وأعقد من أن تستطيع أي جهة سياسية مهما كانت مدعومة إقليمياً ودولياً أن تحد من أثرها،فضلا عن التداخل الاجتماعي حيث تقول إحصائيات غير رسمية أن نسبة التزاوج بين العائلات من الطرفين هي 17% في الجانبين وهذه النسبة تتوزع على جانبي الحدود،كما أن التعدد الطائفي والمذهبي يكاد يكون واحداً في البلدين”18 في سوريا ومشابهة لها في لبنان،يجعل التطابق والتقارب أقوى من دعوات فصل أقرب إلى الأمنيات منها إلى إمكانية التطبيق،وكعاد انقسام لبنان الأخير منذ سنوات بين “14 آذار” المعارض لسوريا حتى العداوة،و”8 آذار” المتحالف مع سوريا لدرجة تبدو أشبه بتوافق حتى على المصير،يبقى أي حدث لبناني مثار جدل وانقسام لدرجة الاستنزاف بين الجهتين،فبين المنابر وما يتم تبادله من قصف عبرها لدرجة التخوين،ومناطق صراع أشبه ببراميل بارود كدرب التبانة وجبل محسن،يبقى فتيل البارود ينتظر أي شرارة لتكون ترجمته الوحيدة على الأرض دماء وكسر عظم.
لكن بالمقابل هناك موقف سوريا من لبنان أيضاً والذي يجب أخذه في الحسبان،فلبنان بالنسبة إلى سوريا هو كالخاصرة بالنسبة إلى الجسد ومعروف أن أشد آلام الجسم مصدرها الخاصرة،فكيف يمكن أن تكون انعكاسات هذه الخاصرة المتعبة والمنهكة وقليلة المناعة على سوريا،والتي تعيش بدورها أزمة ربما تكون الأعقد في القرن 21 بفعل الانقسام الدولي والداخلي ،والتمترس الحاد وغياب أي بوادر للتوافق على حل سياسي بين أطرافها “داخلياً وخارجياً”،وباتت نقطة اللاعودة هي المتحكمة بأدق مفاصل الأمور،وكيف يمكن أن تنعكس دعوات بعض أفرقاء لبنان الغاضبة عقب اغتيال الحسن لتصدير “ثورة الأرز” أو استكمال نصفها الثاني بنقلها إلى سوريا،من خلال دعوات طغى عليها الغضب والتسرع في كل شيء باستثناء شيء واحد،وهو “الحكمة” ؟ وهل اعتقد البعض أن مجرد التهييج عبر الخطابات النارية كاف لتحقيق الأهواء التي يقترب تحقيها على الواقع من المستحيل،وهل الدفع باتجاه الفوضى كاف للإطاحة برئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي عبر اقتحام “السرايا” والقفز منها إلى “قصر الشعب” في دمشق!!! هكذا بهذه السهولة؟! وبهذه البساطة لايمانع أحد بدفع البلد إلى الفوضى وربما الانفجار وكل مقوماته موجودة؟.
لكن يبدو أن الزخم الذي عولت عليه بعض الأقطاب في الشارع لم يكن كما كانت تشتهيه،وكان أقل بكثير من إحداث انقلاب أو تصويرهم أنهم من يمثلون الأكثرية الشعبية فيه،وهكذا كان أن عادت بعض الأطياف لتحذر وتبرر وتعيد النظر بدهواتها من باب “التعقل والتهدئة”،وإن كان في حقيقة الأمر أن ضعف الحراك الشعبي بدا أقل بكثير من إجبار ميقاتي على الخروج وهو الذي لمح لإمكانية ذلك،قبل أن يعلن مجدداً أن دعوات البعض جعلته يتراجع عن الفكرة من أصلها،لابل سارعت بعض الأطراف المناهضة للإعلان صراحة أن المشروع الذي وصفوه بـ”الانقلابي” ولد ميتا وتم إحباطه سريعا بعد أن بدا ضعف الحراك الداعم له وتدخل الجيش السريع،واستعيدت محطات قريبة من تاريخ لبنان وكيف أن “14 آذار” تمسكت برئاسة الحكومة عندما اعتصم مئات الآلاف،واستعيدت لقطات من الأرشيف تبين رفض المطالبين بإسقاط حكومة ميقاتي وهم يرفضون دعوات الشارع يوم كانوا هم يشغلون الكرسي،كما انبرى البعض ليظهر أن رئيس حكومة لبنان الحالي هو رجل دولة من ظراز رفيع،وكان صاحب القول الفصل في عدة محطات لم يتوانيى عن اتخاذ القرار المناسب،والوفاء بالوعود،فهو رئيس حكومة سابق وكانت الأهم في السنوات الأخيرة عندما وعد أنه سيرأس حكومة تكون مهمتهما تأمين انتخابات نيابية نزيهة لن يترشح أو يدعم أحد فيها،وكان ذلك ونالت “14 آذار” الأغلبية فيها،ثم أليس هو الذي سارع لدفع حصة لبنان من تكاليف المحكمة الدولية في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري رغم كل الجدل الذي رافقها منذ تأسيسها وترأس الألماني ديتليف ميليس لها،والأهم أليس لبنان بلد التوازنات الحساسة “مذهبياً” والتي باتت القوى فيها “السياسية ” منها تتمترس خلف الطائفية بحيث باتت عكس دول كبيرة تحصن أسياد الأحزاب والطوائف وليس العكس،والأهم من كل هذا أليس لبنان الذي عانى تجربة الفراغ الرئاسي لشهور عدم التوافق بعد عهد إيميل لحود،يمكن أن يدخل في الفراغ مجدداً لو تنحى ميقاتي وسقطت حكومته؟والفراغ في لبنان الآن بالتحديد مرعب وخطر ويمكن أن يأتي على كل شيئ،واليوم كل هذه الغشارات لم تكن غائبة بحال عن المجتمع الدولي والأطراف المؤثرة فيه،والتي تجد اليوم أن استقرار لبنان على وضعها حير من الانخراط أو دخول الفراغ وبالتالي المحظور…
وهنا كانت الطرفة السياسية كما سموها “أن بعض عواصم القرار مثل واشنطن سارعت لدعم حكومة ميقاتي ،وهي بنفس الوقت تعتبر كما تسميها المعارضة حكومة “حزب الله” الحزب الذي تضغط واشنطن على أوروبا لإدراجه على لائحة الإرهاب!.
*** “الناي بالنفس” هو العنوان العريض والشفاف الذي ادعت الأطراف اللبنانية موافقتها عليه تجاه أحداث سوريا،لكن الأحداث تبين أن هناك تدخلات أو محاولات من البعض للتدخل بما يخدم أهداف الجهة التي يدعمها،ولاتبدأ بالدعم الإعلامي وبالكاد تنتهي بالتسليه والدعم المادي،ثم يتبعا تصريحات تعلن صراحة الاستعداد للتدخل عندما تقتضي الحاجة،فبين ضبط المسلحين وشحنات السلاح،وقصة المتسللين،يمكن أن أن تنتقل أزمة سوريا إلى لبنان،وسوف يجد عندها المخالفون لشعارهم “النأي بالنفس” أنفسهم في الدوامة ولكن في بلدهم وليس في سوريا ،ومن هنا فإن قناعة البعض إن صدقت النوايا بتحصين لبنان ضد المؤثرات الخارجية سوف تكون أجدى لو انكفأوا في بلدهم واهتموا بمشاكله وفق العناوين التي تقترب من “التخذير” كطاولة الحوار وقانون الانتخابات خير من الاندفاع باتجاه النار التي يمكن أن تأكلهم قبل غيرهم،ثم أليس الحلم ببناء ديمقراطية حقيقية توجد حلاً لمشكلات البلد المستعصية أنجع من التغني بديمقراطية حالية تحولت بفعل الردح والشعارات إلى ديمقراطية مهلهلة ينخرها سوس الطائفية حتى العظم..الكثير من الدول الكبرى تتريث ولاتحسم بانتظار انجلاء بعض المواقف..
فأين سيذهب لبنان بمنظريه وخطاباته النارية من البركان الذي يستعر؟.
كاتب سوري