ستيفن سبيلبرغ يكشف خفايا لينكولن
قال ستيفن سبيلبرغ في مقابلة حديثة تكلم فيها عن فيلمه الجديد Lincoln: «لينكولن اليوم يتجاوز حدود السياسة الحزبية». فردّ عليه كاتب السيناريو توني كوشنر كما لو أراد ممازحة المخرج ودفعه إلى الاعتراف بأن أول رئيس جمهوري في البلد كان يميل إلى اليساريين: «نعم صحيح! ما دام يوافق جميع أنصار الأحزاب على أننا معنيون بمحاولة تعزيز فاعلية الحكم». سرعان ما هدأ هذا النقاش المحتدم بين رجلين ديمقراطيَين أميركيين معاصرين بفضل دانيال داي لويس…
يبلغ ستيفن سبيلبرغ 65 عاماً، وهو مخرج حائز جوائز «أوسكار» عدة ومعروف بأفلامه التي تجذب الجماهير وتكون مثالية من الناحية التقنية. في المقابل، يبلغ كوشنر 56 عاماً، وهو كاتب مسرحي حائز جائزة «بوليتزر» ومعروف بميوله السياسية ومسرحياته المنمّقة من الناحية اللغوية. يبدو أن هذين الرجلين أصبحا الشريكين غير المتوقعين لصناعة أول فيلم في هوليوود عن أبراهام لينكولن منذ أكثر من 70 عاماً. صحيح أنهما ليبراليان ويبرعان في مجالهما، لكن من الواضح أن أسلوبهما الإبداعي مختلف جداً: سبيلبرغ هو صاحب النجاحات الساحقة في هوليوود وكوشنر هو ثائر أدبي. درس الرجلان مشروع فيلم Lincoln سبع سنوات، عملا خلالها على كشف معالم ذلك الرجل الذي يعرفه الجميع عبر النصب التذكارية فحسب.
تركِّز القصة على فترة مشحونة من حياة لينكولن، على مدى أربعة أشهر في نهاية الحرب الأهلية في عام 1865، حين كان الرئيس يحاول تمرير التعديل 13 للقضاء على العبودية تزامناً مع حماية عائلته من خسارة ابن آخر. يشمل Lincoln طاقم ممثلين يتألف من 140 شخصاً، من بينهم سالي فيلد بدور السيدة الأولى ماري تود لينكولن، وديفيد ستراثيرن بدور ويليام سيوورد (وزير الخارجية الذي يثق به الرئيس)، وتومي لي جونز بدور عضو الكونغرس النافذ ثاديوس ستيفنز، وجوزيف غوردون ليفيت بدور ابن لينكولن الحساس روبرت.
صحيح أن الأحداث تدور خلال حرب مريعة، لكن تتمحور القصة بشكل أساسي حول سياسة ما وراء الكواليس التي مورست بدهاء ومتعة معينة.
لطالما أبدى سبيلبرغ انبهاره بشخص لينكولن منذ الطفولة: «كنتُ منجذباً بشكل غريب إلى شخصيته المرتبكة التي تتناقض مع إنجازاته التاريخية». عام 2001، حين كانت المؤرخة دوريس كيرنز غودوين لا تزال تجري أبحاثها لتأليف كتابها «فريق من الخصوم: العبقرية السياسية عند أبراهام لينكولن» (Team of Rivals: The Political Genius of Abraham Lincoln)، وقع اختيار سبيلبرغ على هذا الكتاب كمرجع له كونه يعرض سيرة ذاتية شاملة عن لينكولن ولطالما اعتبر الرئيس أوباما هذا العمل مصدر إلهام له منذ صدوره.
قال سبيلبرغ خلال مقابلة أجراها في أحد فنادق بيفرلي هيلز: «تقتصر معرفة الناس حول لينكولن على أنه يشكل جزءاً من تاريخنا الوطني في حين يركزون على كل ما هو معاصر ومثير للاهتمام. لكني أردتُ معرفة المزيد عنه: أعلم ما قام به، لكن لماذا قام بذلك أصلاً؟».
عمل سبيلبرغ وكوشنر معاً في السابق: كوشنر معروف بمسرحية «ملائكة في أميركا» (Angels in America) التي تتناول مرض الإيدز وحصدت جائزة «بوليتزر»، وقد كتب فيلم Munich الذي أخرجه سبيلبرغ في عام 2005 ويتناول قصة القتلة الإسرائيليين غداة الألعاب الأولمبية عام 1972. يتشاركان الفضول نفسه حول عالم السياسة ونظرة تفاؤلية عامة عن الديمقراطية. وافق كوشنر على المشاركة في Lincoln بعد أن حاول عدد من الكتّاب الآخرين صياغة سيناريو يُعجب سبيلبرغ وفشلوا في ذلك (ركزت إحدى جوانب القصة في المرحلة الأولى على صداقة لينكولن مع فريدريك دوغلاس).
تطلّب تحضير Lincoln فترة أطول من الحرب الأهلية: تخبّط كوشنر لصياغة السيناريو طوال خمس سنوات، ففشل في تقديم العمل خلال مهلة زمنية محددة حين كان يسعى إلى تحويل مسودة سيناريو أولية من 500 صفحة إلى فيلم مدّته 149 دقيقة. في مرحلة معينة، قرر ليام نيسون، الذي رُبط اسمه بأداء دور لينكولن، العمل في مشاريع أخرى.
في مرحلة سابقة، جمع سبيلبرغ مجموعة من المؤرخين الخبراء بحقبة الحرب الأهلية، بمن فيهم جيمس ماكفرسون، مؤلف كتاب «صرخة الحرية في المعركة» (Battle Cry of Freedom) الحائز جائزة «بوليتزر»، كي يتقابلوا معه ومع كوشنر. أوضح هذا الأخير: «قال جيم ماكفرسون إن الحرب الأهلية تعكس مشهداً شاسعاً لدرجة أن شخصية بحجم لينكولن قد تضيع فيه. أحببتُ الصورة التي استعملها».
التعديل الثالث عشر
بناءً على إصرار سبيلبرغ، ضيّق كوشنر نطاق الفيلم كي يقتصر على الفترة القصيرة التي تغطّيها الأحداث. سمحت هذه المقاربة لصانعي الفيلم بعرض قصة التصويت على التعديل الثالث عشر كلحظة محورية مع تجسيد التوتر الذي كان يتصاعد مع كل صوت يفوز به لينكولن، فضلاً عن إضافة لحظات إنسانية صغيرة من حياته مثل المشهد الذي يحرك فيه لينكولن نار الموقد أو يضع ابنه تاد في حضنه.
ساهمت مقاربة سرد القصة بهذه الطريقة الحميمة في جذب داي لويس المعروف بنزعته الانتقائية في أعماله، وقد قال هذا الأخير إنه شعر في البداية بالخجل تجاه لينكولن. أوضح الممثل المولود في لندن والذي لم يعمل سابقاً مع سبيلبرغ: «في أوروبا، لدينا تصوّر مبهم عنه. ظننتُ أن اكتشاف لينكولن وطبيعته الإنسانية سيكون عملاً شاقاً».
في ربيع عام 2010، سافر سبيلبرغ وكوشنر إلى منزل داي لويس في إيرلندا لإقناعه بأداء الدور، علماً أن هذا الدور كان قد جسده سابقاً على المسرح أو الشاشة ممثلون أميركيون من أمثال هنري فوندا، هال هولبروك (يظهر في Lincoln)، وسام واترستون.
حين وافق داي لويس أخيراً على المشاركة، أمضى هذا الممثل الذي يبلغ 55 عاماً سنة كاملة وهو يتحضّر للدور، فبدأ يغوص في خطابات لينكولن وكتاباته. بما أن والده كان شاعراً مرموقاً في إنكلترا، شعر بالسعادة عند قراءة بعض العبارات التي كان يستعملها الرئيس، مثل «التحرير من العبودية»، وحث كوشنر على إضافتها إلى السيناريو.
قال داي لويس: «ما كنتُ قد صادفتُ هذه العبارة سابقاً وأنا أبحث منذ ذلك الحين عن السياق المناسب كي أستعملها في كلامي. أحبها كثيراً. يتعلق أهم مصدر يضمن فهم لينكولن وحياته بكلماته ولغته الخاصة».
ما من تسجيلات لصوت لينكولن. لإيجاد نبرة الشخصية المناسبة، اتكل داي لويس على تقارير خطية من الحقبة التي كان يتحدث فيها لينكولن علناً. كان الممثل يقرأ كتابات لينكولن بصوت عالٍ وتمنى أن يشعر بإلهام معين كي يصيب النبرة المناسبة. هذا ما حصل فعلاً، فاعتمد في النهاية لكنة عالية الطبقة كتلك التي يشتهر بها سكان ولاية كنتاكي.
أوضح داي لويس: «نعرفه من خلال الصور الجامدة. أما الأمور الأخرى، فتنجم عن مجرد توقعات. إذا كنتُ محظوظاً، قد أبدأ في مرحلة معينة بسماع صوت في أذني. وإذا أعجبني الصوت، أحاول إعادة تجسيده. وهكذا ينتهي الأمر. أكلم نفسي كثيراً».
داي لويس رجل طويل ونحيف بطبيعته، وعظام وجنتيه بارزة، وكان مناسباً في الشكل لأداء دور لينكولن الذي كان معروفاً بطوله في تلك الحقبة. يتذكر داي لويس مرحلة اختيار الممثلين قائلاً: «في كل مرة كان ستيفن يطلب رأيي بالممثلين المحتملين، كنتُ أسأله عن طول قامتهم. أردتُ أن أكون أطول شخص في الفيلم».
بالنسبة إلى سبيلبرغ، كان هذا الفيلم يعني التخلي عن مقاربته المفضلة في تصوير الأفلام لسرد قصة ترتكز بشكل كامل على الأداء التمثيلي واللغة. ما من تحديات كبيرة على مستوى تصوير اللقطات كما كان الوضع في فيلم Saving Private Ryan، وما من إضاءة دافئة تبث الحنين في النفوس كما حصل في فيلم War Horse.
قال سبيلبرغ: «كنتُ أركز على الإبداع الفني في الأدب واللغة من دون استعراض أي إمكانات خارقة لعرض مشاهد تُبهر المشاهدين. لطالما رغبتُ في خوض هذه التجربة ولم أسمح لنفسي يوماً بخوضها إلى أن تم إحياء مشروع لينكولن».
بيت مسكون
من الناحية البصرية، استوحى سبيلبرغ رؤيته من فكرة البيت الأبيض خلال عهد لينكولن كونه كان يشبه بيتاً مسكوناً. خلال فترة تصوير الفيلم التي امتدت على 53 يوماً في فرجينيا، ركز المخرج والمصور السينمائي الذي يرافقه منذ فترة طويلة، يانوش كامينسكي، على إظهار أجواء القرن التاسع عشر حيث كانت الشموع والأضواء الطبيعية تجعل الأماكن الداخلية خافتة وقاتمة.
أوضح كوشنر: «في هذا العمل، تكمن المفارقة في واقع أنه فيلم بارد ومظلم مع أنه إنتاج يبث الأمل. يصعب أن يوحي هذا العمل بالسعادة لأن تلك السعادة تنبع من مكان أعمق».
صدر فيلم Lincoln بعد ثلاثة أيام من يوم الانتخابات الأميركية وهو يتمحور حول زعيم محاصر. لا شك في أنه سيثير النقاش حول السياسة الانتخابية المعاصرة، ولم تغفل حملة الفيلم التسويقية الأولى عن هذا الجانب. ظهر إعلان الفيلم الذي يدوم دقيقتين على أهم الشبكات التلفزيونية خلال المناظرة الرئاسية الأولى، وطرحت شركة التوزيع «ديزني» وبعض وسائل الإعلام التي تموّل الفيلم منهجاً دراسياً لطلاب وأساتذة المرحلة الثانوية يركز على مواضيع القيادة والمشاركة المدنية.
لكن قال سبيلبرغ إنه تعمّد الانتظار حتى انتهاء الانتخابات كي يُصدر Lincoln خوفاً من أن يتحول المشروع إلى مباراة سياسية.
ختم قائلاً: «لا أعلم نوع الجمهور الذي سيقرر مشاهدة فيلم Lincoln، لكني أريد أن تشاهده أكبر شريحة من الناس كي يتقارب الأشخاص الذين لا يعرفون بعضهم البعض. أردتُ أن يتشارك هذه التجربة الغرباء الذين يفهمون أن ما وصلنا إليه اليوم ينجم من ناحية معينة عن إنجازات لينكولن».